أن تزرع ثورة لا يعني أن تحصد ديمقراطية!

TT

في زمن الخديعة يصبح قول الحقيقة عملا ثوريا.

جورج أورويل.

لم أكن في يوم ما من أنصار أو مؤيدي نظرية المؤامرة؛ تلك التي عادة ما ترسم سيناريوهات معقدة لما يدور خلف الكواليس في صناعة الأحداث الدولية عبر أجندات خاصة تصور العالم كدمى وعرائس غير قادرة على الفعل تديرها «قوى خفية» تصنع البهجة والأحزان في آن واحد.

ما الذي يحدث إذن؛ هذه الحلقات المتشابهة من مسلسل الثورات الطويل والمثير للدهشة والتساؤل، الذي جعل الكثيرين يلقون بأوراقهم وأفكارهم وتصوراتهم حول عالم القوى والسياسة وصراع السلطات داخل المجتمع الواحد ويتبنون تصورات حالمة عن ما يحدث تلغي الأسباب والنتائج وتتحدث عن «أساطير» جديدة تتصل بعالم التقنية بدءا من الـ«فيس بوك» وانتهاء بغضب الشباب الجامح للتغيير، هذه التصورات تقدم وصفات سحرية لصنع «ثورة» بأقل التكاليف وتغيير واقع معقد دون تدخل خارجي أو مباركة من القوى المهيمنة.

لا أزعم أنني أملك الإجابة، وعلى الضد من ذلك أتخيل أن كل من يقدم تحليلا نهائيا وناجزا لما يحدث يختزل الحقيقة ويشوهها؛ إلا أن عدم امتلاك تصور واضح لا يعني أننا لسنا بإزاء ظواهر جديدة قذف بها المشهد اليوم على سطح الواقع المتكلس بفعل الهوة السحيقة بين طريقة تفكير الأنظمة السياسية الديمقراطية «شكليا» وبين مجموعات فاعلة في المجتمع ظلت لفترة طويلة في صف المعارضة لكنها لم تطور أدواتها السياسية فضلا عن أن تقوم بمراجعات طويلة لبرنامجها على الأرض في حال انتقالها من طور المعارضة إلى السلطة.

من تلك الظواهر التي غفل عنها الطرفان - النظام والمعارضة - عبر تاريخ صدامهما الطويل هو دخول لاعبين جدد للمشهد، ففي السابق كانت القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة تدير شروط اللعبة وفق ثنائية المصلحة الذاتية وقيم الديمقراطية التي تروج لها أحيانا تنحاز لخطاب المصلحة وتارة أخرى تستخدم ورقة القيم للضغط على الدول لإفساح المجال للمعارضة. اللاعبون الجدد كانوا بعيدين عن كل ذلك، حيث خاضت أجيال جديدة، يقودها شبان ناقمون على الأوضاع، تحولات ثقافية، وبالتالي سياسية واجتماعية هائلة، وكان وقود ذلك التحول هو «قلق الهوية» الذي صنعته حالة الفراغ الثقافي، بسبب انحياز الأطراف المؤثرة على الأرض إلى السياسة كمكتسب سلطوي، وفي الوقت ذاته كانت الولايات المتحدة تطبخ على مهل قرار الاقتراب أو الابتعاد من قوى المعارضة، وهي في مجملها «إسلاموية» وربما إذا كنا لا نريد التعميم بحكم تنويعات المشهد الإقليمي، تنحاز إلى أجندة وخيار «الإخوان المسلمين» الأكثر تنظيما وحضورا وقدرة على إقناع الخارج بأنهم يستحقون «فرصة»، لينتقل الخطاب الأميركي، سياسيين وصحافة ومراكز أبحاث، من مرحلة «الفزاعة» إلى مرحلة «البديل الواقعي» أي الأكثر تمثيلا على الأرض.

هذا التحول كان ماثلا للعيان في حالة الفرح بثورة التحرير التي فاقت في قوة تأييدها وتهميشها للحليف السابق الثورة السابقة «التونسية» واللاحقة. صحيح أن الجميع يدرك ثقل التحول النوعي في بلد كمصر، لكن سلاسة سيناريو أحداث ثورة مصر والمؤثرات البصرية والعاطفية التي رافقتها جعلت الكثيرين يقتربون من نظرية المؤامرة، وأقل من أولئك من تحدث عن صفقة عادلة أدارها الجيش، لكن الأكيد أن أميركا بدت إلى حد ما كضابط لإيقاع الثورات، هذا الإيقاع الذي يتحول إلى صمت وانكفاء فيما يخص مرحلة «ما بعد الثورة»، حيث المخاطر والتخوفات والعمل السياسي الحقيقي، وكأن النهايات الهوليوودية الساذجة بالتخلص من «الشرير» تؤذن بانتهاء العرض.

الحديث عن حالة الـ«ما بعد» أصبح هاجسا لكثير من النخب الثقافية والفكرية، التي لم تنحَز يوما ما لخيار النظام أو تنخرط في عمل المعارضة، إيمانا منها بأنها وجهها الآخر الذي يطابقها في طريقة تفكيرها وآليات عملها على الأرض، ولعل ما حدث في مرحلة الـ«ما بعد» في الثورات الفرنسية والبلشفية والإيرانية يعطينا مؤشرا واضحا على أن حالة القلق يجب أن تتحول إلى مشروع نقدي للثورة.

أهم تلك الحقائق الثورية بالمعنى «الأورويلي» أنه لا يمكن البدء في عملية بناء ديمقراطي على أنقاض نظام مستبد إلا بعد الإفاقة من نشوة الثورة وسكرتها، بسبب تحقق سقف مطالبها بسقوط النظام، فالمهم هنا سقوط كل القيم والمنظومات الثقافية التي كان النظام يستغلها للبقاء، كالطائفية والعشائرية واستغلال الشعارات الدينية، التي عادة ما تخلق أجواء كريهة من الانفلات الأمني والمؤسساتي، وهذا ما لاحظناه في الاستفتاء الأخير على تعديل الدستور في مصر، فالنتائج ليست مهمة، بل لنقل إنها كانت متوقعة وغير مفاجئة، لكن الآليات التي تم فيها تعبئة الجماهير والشعارات التي رفعت وطريقة إدارة المعركة الانتخابية وصولا إلى طريقة التعبير عن الفرح بنتيجة «نعم» التي سماها أحد المشايخ في مقطع مثير على الـ«يوتيوب»، «غزوة الصناديق»، هذا الشيخ - وهو يعبر عن خطاب فكري عريض - لم يكتف بإظهار فرحه بالتكبير الجماعي، كما يحدث عادة في الأعياد الكبرى؛ بل كان يعقد مقارنة بين أهل الحق الذين قالوا «نعم»، وأهل الباطل في الفسطاط الآخر الذين قالوا «لا»، في ظل حماسة واهتياج شديد من الجماهير الحاضرة.

ممارسات كهذه لا تقودنا إلى مخاوف من «ثورات مضادة» على اختطاف ثمار الثورة من قبل القوى الفاعلة على الأرض فحسب، كما أنها يجب أن لا تجعلنا نقلق من أصابع الاتهام التي ترفع عادة في أي نقد صريح لهذه السلوكيات - حيث الثورة كانت على الاستبداد بالدرجة الأولى - لكنها تجعلنا نفكر طويلا في الفرق بين الديمقراطية المستنبتة في أرض لم تحرث جيدا بقيمها وثقافتها حيث تتحول من مجرد أداة إلى غاية، وهنا أعود لأورويل لأختم إذ يقول: إن كان التحرر يعني شيئا فهو الحق في أن تقول للناس ما لا يودون سماعه!

[email protected]