الاستفتاء المصري ومتغيرات الأمزجة والاستقطابات

TT

ما توقع أحد ممن يعرفون مصر ومزاجها العام أن تأتي نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية على غير ما أتت عليه. إنما كانت المفاجأة في الفرق الشاسع في الأعداد بين مؤيدي التعديلات الدستورية ورافضيها. فقد توقعنا أن يشارك في الاستفتاء زهاء العشرين مليون مصري، ويكون عدد المؤيدين بحدود الـ12 مليونا، والمعارضين بحدود الـ8 إلى 9 ملايين. والذي حصل بالفعل أن الذين شاركوا كانوا في حدود الـ18 مليونا، أيد منهم الدستور المعدل زهاء الـ14 مليونا، وعارض 4 ملايين - وبذلك فقد كانت نسبة المؤيدين أكثر من 77 في المائة من مجموع المشاركين. وقد لقيت تلك النتيجة ترحيبا هائلا من جانب النخب والأحزاب والجماعات الإسلامية والمحافظة ودساكر الريف وأنصار النظام السابق، بينما شعرت كثرة من الشبان الذين قاموا بثورة يناير بالخيبة والإحباط، وإن كان متحدثون منهم قد عادوا للقول إنها خسارة معركة وليست خسارة حرب، ولا بد من مراجعة دقيقة وشاملة لما جرى ويجري، والعمل بطرائق أخرى في أوساط الجماهير، والاستعداد بأساليب أفضل للخطوات اللاحقة.

تقوم بالثورات والانقلابات الكبرى عادة - بحسب كرين برينتن صاحب الكتاب القديم: «تشريح الثورة» - نخب راديكالية ذات وعي طلائعي وتغييري، ليست كثيرة العدد، لكنها حسنة التنظيم. وهي بعد الاستيلاء على السلطة تتوجه للشعب، وتعلن عن برنامجها للتغيير، دون أن تلجأ للاستفتاء أو للانتخابات، بمعنى أنها هي التي تتولى إدارة «السلطة الثورية» لإنفاذ الأهداف الموضوعة باسم الشعب، طبعا لكن دون مشاركته في الخيارات والقرارات. وبغض النظر عن التسميات التي أعطيت للثورات والانقلابات في العالم العربي منذ أواخر الأربعينات في القرن الماضي؛ فإن توصيف كرين برينتن هذا ينطبق عليها جميعا باستثناء حركتين بالسودان في عامي 1965 و1985. ففي عام 1965 كانت هناك «ثورة شعبية» بالفعل أسقطت الجنرال إبراهيم عبود الذي جاء للسلطة بانقلاب، وعادت للحياة السياسية الديمقراطية التي ما لبث الجنرال نميري أن أنهاها بعد قرابة الخمس سنوات. وفي المرة الثانية (1985) قام الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب بانقلاب على النميري، لكنه سلم السلطة للشعب بعد عام، إلى أن استولى عليها من جديد الجنرال البشير وأصدقاؤه عام 1989، والمستمر بالسلطة حتى اليوم.

أما ما جرى ويجري بالعالم العربي منذ ثلاثة أشهر؛ فلا تنطبق عليه مواصفات كرين برينتن، ولا مواصفات الثورة الشعبية الكاسحة؛ وإنما هناك خليط من الأمرين. فقد تعطلت الوظائف الأساسية للدولة بالداخل ومع الخارج منذ أكثر من عقدين. ولهذا تجمعت وجوه سخط هائلة لدى فئات شعبية واسعة وواسعة جدا. ولأن الزمن ليس زمن الجيوش والانقلابات، والأحزاب السياسية الجدية التي تمثل شيئا معدومة أو شديدة الضعف؛ فقد انتظر المراقبون انفجارا عنيفا تتوالى تصدعاته من جانب الإسلاميين المنظمين. إنما الذي حصل بتونس ومصر، ويحصل بليبيا واليمن وبلدان أخرى، ما أتى من جانب الإسلاميين بالدرجة الأولى؛ بل من جانب شباب «الثورة الديموغرافية». فالشعوب العربية تبلغ نسبة من هم تحت سن الثلاثين من نفوسها أكثر من 50 في المائة، ومن مختلف الفئات المتعلمة، التي لم تتوافر لها فرص التعليم العالي ولا فرص العمل. وهذا فضلا عن الافتقار إلى القدرة على الحراك المثمر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ولا شك أن هذا التوصيف يتناول أيضا الحزبيين من الإسلاميين، وإن تقدمت لدى قياداتهم الاعتبارات الآيديولوجية والشعاراتية في عمليات التجاذب والصراع مع الأنظمة. وهكذا، وبالحدود المتاحة للتواصل (وليس للتنظيم) تحركت «طلائع» من هؤلاء الشباب تطالب بالتغيير من أجل العمل والإنتاج ومكافحة الفساد، والعدالة، والحريات؛ وكل ذلك تحت الشعار الأكبر: الحق في المشاركة، وإقرار مبدأ التداول على السلطة. وبعد عمليات القمع الأولى، التي لم تخرج الشباب من الساحات والميادين، ازداد إقدام الثائرين، وتكاثرت أعدادهم، ونزل بعدهم وانضاف إليهم الإسلاميون وبمصر أكثر من تونس بالطبع.

وقد حقق الشباب في تونس ومصر نجاحات بارزة أفضت إلى تنحي الرئيس، ثم إلى إزالة جهاز أمن الدولة الذي كان الأداة الرئيسية للقمع، وتشكيل حكومة رضي عنها الثوار، وكل ذلك برضا الجيش وحمايته وتجاوبه منذ بدايات التجمهر. ثم اختلفت التطورات وربما المصائر بين البلدين، أما التونسيون فقد نجحوا في الإرغام على إقرار تكوين مجلس تأسيسي بالانتخاب، يقوم بكتابة دستور جديد، ثم تجري انتخابات برلمانية ورئاسية، وتسود البلاد مع آخر هذا العام ديمقراطية برلمانية، ويقول التونسيون إنهم مروا بالتجربة ذاتها أواخر الخمسينات من القرن الماضي. وما حدث شيء من ذلك بمصر. فقد شكل المجلس العسكري لجنة لتعديل الدستور، في المواد التي كان الرئيس مبارك قد اقترحها قبل تنحيه. ولأن هذه التعديلات أقرت في استفتاء عام؛ فالذي سيحصل أن الانتخابات لمجلسي الشعب والشورى سوف تجري في الصيف، وبعدها الانتخابات الرئاسية، ثم يسلم المجلس العسكري السلطة للرئيس الجديد كما تسلمها من الرئيس مبارك، «ويا دار ما دخلك شر» كما يقول المثل الشائع!

وما رضي الشباب، ولا أنصارهم من «مدنيي» المثقفين عن كل هذه العملية. وطالبوا بأن تكون هناك فترة عام يظل فيها المجلس العسكري هو المرجعية العليا، وتظل الحكومة مؤقتة أو انتقالية، ويصدر خلالها إعلان دستوري تجري على أساسه الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتكون أولى مهام المجالس المنتخبة كتابة دستور جديد للجمهورية البرلمانية وليس الرئاسية. لكن الشباب وممثليهم وأنصارهم عندما توصلوا إلى هذا التصور بعد لأي، كانت القوى الأخرى الإسلامية والمحافظة وبقايا النظام السابق، والمجلس العسكري، قد اتفقت جميعا على إجراء الاستفتاء على التعديلات الطفيفة للدستور الساداتي/ المباركي، والتي تسهل وحسب الانتخابات النيابية والرئاسية، وتقصر ولاية الرئيس إلى أربع سنوات، ولفترتين حدا أقصى (مثل المدة الرئاسية الأميركية)، وتبقي صلاحيات الرئيس شبه مطلقة كما كانت منذ ثورة يوليو عام 1952.

ماذا يخشى الشباب و«مدنيو» المثقفين والسياسيين من المسلمين والأقباط؟ يخشون أن لا يتمكنوا في الفترة القصيرة المتبقية على الانتخابات، من تنظيم صفوفهم، وتقوية حركاتهم. ثم من أين يأتون بالإمكانيات للتغلغل في الأرياف، وإنشاء المكاتب، وكسب الناخبين؟ وإذا جاء البرلمان الجديد خليطا من الإسلاميين وأنصار الجيش وأنصار النظام السابق، ووجهاء الريف المحافظين؛ فلن يمكن القيام بكتابة دستور جديد ذي صيغة برلمانية ومدنية، تكون الحكومة في ظله منتخبة، وهناك رئيس وزراء قوي بالانتخاب، وصلاحيات الرئيس الدستورية محدودة، بحيث لا يتحول إلى ديكتاتور مؤبد مرة أخرى، ويحتاج إلى تمرد لإزالته.

لقد كان الذي ذكرت عرضا لما جرى حسبما فهمته. والنصائح سهلة، بيد أن أهل مكة أدرى بشعابها. ولا أزال مصرا على أنها معركة ما كان ينبغي خوضها. وفي الشهور القليلة المقبلة تحديات وفخاخ هائلة، فهذه الطبقات الحاكمة (و«الإخوان» متداخلون معها منذ مطلع السبعينات) هي في السلطة منذ الأربعينات من القرن الماضي، وليس منذ ثورة يوليو فقط؛ ولن تزول خلال ثلاثة أشهر، وإن زالت أدواتها القمعية. والرهان على صبر الشباب ووعيهم، وعلى «روحية» المرحلة الجديدة التي لا يصلح لها غيرهم، ليس بالكم والكيف فقط؛ بل وبالثقة والاستقامة والكفاءة، وهي أمور كانت وراء النجاحات التي حققوها حتى الآن، وستكون حاسمة في إمالة الكفة لصالحهم وصالح الشعب المصري، في الصراع على تحديد مستقبل مصر، والتأثير في حاضر العرب والأفارقة ومستقبلهم.