الحاكم المستبد في الخرطوم والستارة المخملية!

TT

خلال الأشهر القليلة الماضية، ومع تحدي الأنظمة العسكرية العربية نظاما تلو الآخر أو الإطاحة بها، تذكرت مشهدا رأيته في الخرطوم منذ عقود مضت.

كنت أجري مقابلة مع الرئيس السوداني، اللواء جعفر النميري، في مكتبه حينما التهمت النيران ستارة مخملية حمراء طويلة في الغرفة.

ولم يكن هناك سوى لهيب صغير فقط يمكن التعامل معه بسهولة عن طريق سحب الستارة إلى أسفل وإطفائه بضغطة قدم، لكن لم يحدث ذلك.

فقد ضغط الرئيس على جرس في مكتبه قبل أن يهرع متجها نحو الباب. وخلال ثوان، تدفقت مجموعة من الرجال المسلحين، الذين يدل مظهرهم على أنهم على أتم الاستعداد لإطلاق النار على أي شخص يبصرونه. وسرعان ما وجدت نفسي في ساحة القصر مع الرئيس وكل الحضور الآخرين، في الوقت الذي توالى فيه قدوم المزيد من الجنود.

لقد تحول حادث بسيط إلى عملية عسكرية. وقد كان لذلك بعض الدلالات.

أولا، بدا من الواضح أن اللواء كان يعيش في حالة من الخوف الدائم. فقد كان تفكيره هو أن ما يبدو كلهيب صغير على ستارة مخملية ربما يكون شرارة البدء لمؤامرة اغتيال ضخمة.

ثانيا، لم يعرف الديكتاتور العسكري أي وسيلة للتعامل مع الحدث سوى استدعاء الجنود. فقد أتى إلى الحكم مهددا بالسلاح، وكان يعتقد أنه لا يمكن أن يحيا إلا تحت حماية السلاح.

أخيرا، عملت حاشية الرئيس كقطيع غنم. فبمجرد أن هرول النميري إلى الساحة، تبعوه جميعا. فلم يستطع أي منهم التفكير في نفسه، بمن فيهم بعض حاملي الدرجات العلمية من جامعات أميركية رفيعة المستوى.

في ذلك الوقت، بدت الأنظمة السياسية التي يترأسها رجل عسكري هي الأنظمة النمطية فيما يعرف بالعالم العربي.

كتب بيتر مانسفيلد، الخبير البريطاني في شؤون الشرق الأوسط: «تتشكل الدولة العربية الحديثة في إطار القوات المسلحة، ويحتل فيها مجموعة النخبة مع الضابط موقع الصدارة».

وقد كانت بداية ظهور هذا الاتجاه مع الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر عام 1952، وانتقل هذا الاتجاه إلى سورية، التي كانت لها تجربتها الخاصة مع الحكام العسكريين لفترة. بعدها، وصل هذا الاتجاه إلى العراق والسودان واليمن والجزائر وليبيا وتونس والصومال.

ومن ثم، ففي خلال العقود الستة الماضية، عاش ما يزيد على أربعة أخماس العرب في ظل نظام عسكري من نوع ما. ويعد سجل تلك الأنظمة مأساويا وهزليا في الوقت نفسه.

ففي مصر، قاد «الضباط الأحرار» البلاد إلى أشد حالات الذل والمهانة على المستوى العسكري. والآن، يحاول نظامهم غير الموثوق فيه التمسك بامتيازاته عن طريق اللجوء إلى المناورات الميكافيلية.

تعيش سورية في حالة شبه اختناق، حيث يقضي «ضباط النخبة» قدرا أكبر من الوقت لجني المال بالمقارنة مع ما يقضونه من أجل «تحرير» هضبة الجولان.

أما عن العراق، الذي خرج لتوه من نصف قرن من الحروب الأهلية والخارجية، فقد بدأ في مداواة الجروح التي لحقت به جراء تعاقب الأنظمة العسكرية على حكمه، وهي العملية التي ربما تستغرق عقودا كاملة.

وبعد ربع قرن من حروب أودت بحياة الملايين، بدأ السودان في الانقسام إلى شطرين، في الوقت الذي اتهم فيه حاكمه العسكري رسميا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وقد شهد اليمن اغتيال اثنين من حكامه العسكريين وحرب انفصال، ومؤخرا، سلسلة من الحروب القبلية. والآن، بدأت تتزعزع أسس الحكم في اليمن، وبات مستقبل الدولة مبهما.

أما عن الجزائر، فقد ذاقت مرارة عقود من الحكم المستبد وقعت خلالها حرب أهلية وضاع جيل واحد على الأقل نتيجة سياسات اقتصادية مضللة فرضها الحكم العسكري. ولم تبدأ الجزائر، إلا منذ أواخر التسعينات، في الابتعاد – وببطء عجيب - عن الحكم العسكري المستبد.

وفي يومنا هذا، تعيش ليبيا في حالة من الحرب الأهلية غير مؤكدة العواقب. لقد تحولت من دولة شديدة الثراء إلى دولة فقيرة.

وقد انهار النظام العسكري التونسي. غير أن أجيال الشعب التونسي المتعاقبة مجبرة على أن تدفع ثمن الأخطاء التي ارتكبها كل من الحاكم المستبد وأتباعه.

أما عن الصومال، فقد أصبحت منطقة حروب وربما لا تعود من جديد مطلقا إلى حالتها الطبيعية كدولة قومية عادية. وحتى الجيش الذي حكمها في وقت سابق، فقد انهار تماما.

ومع وجود بعض الاستثناءات المحدودة، على سبيل المثال، جمال عبد الناصر في مصر وعبد الكريم قاسم في العراق اللذان ظلا نظيفي اليد، فإن الحاكم العسكري سرعان ما يحول نفسه إلى رجل أعمال يسعى إلى تكوين ثروات طائلة.

وفي هذا الأسبوع، نشرت صحيفة «إيفنينغ ستاندرد» البريطانية اليومية قائمة بأسماء بعض أعمال الديكتاتور الليبي معمر القذافي. فالعقيد معمر القذافي يمتلك مجموعة ضخمة من العقارات والأسهم الصناعية والمصرفية والفنادق وشركات السياحة، وهذا في لندن وحدها. وإمبراطورية أعمال الرئيس القذافي تمتد إلى إيطاليا وفرنسا وسويسرا والنمسا وتركيا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن أبناء العقيد يديرون مجموعة «صناديق استثمار» قيمتها 200 مليار دولار لحساب الدولة الليبية.

ومن المعروف أن معظم هذه الصناديق مجمدة الآن، وربما ينتهي الحال بأن تصبح الأموال المودعة بها في حوزة المحامين الغربيين والحكومات الغربية.

ويمكن إعداد قوائم أخرى مماثلة بحجم أعمال نخبة الضباط الجزائرية والمصرية والسودانية وداخل دول أخرى.

وعادة ما يتحدث خبراء غربيون عن الحاجة المفترضة إلى الفصل بين الدين والدولة في الدول العربية. ومع ذلك، فإن القضية الحقيقية المهمة هي ضرورة الفصل بين العمل التجاري والدولة.

وبعيدا عن أنسب نظام لحكم العرب، كما يعتقد مانسفيلد، فإن النظام العسكري كان بمثابة نوع من الانحراف عن الطريق الصحيح. فقد نقله العرب عن هتلر وموسوليني وفرانكو وبيرون وغيرهم من الديكتاتوريين العسكريين الآخرين في أميركا اللاتينية. وفي الفترة ما بين الثلاثينات والسبعينات، كانت الأنظمة العسكرية شائعة في كثير من مناطق ما يعرف باسم العالم الثالث، واقتفى بعض العرب الأثر.

ومع سقوط العديد من الأنظمة العسكرية والنهاية الوشيكة للنظم الباقية، فإن فصلا من التاريخ العربي على وشك الانتهاء.

والسؤال هو: ما نظام الحكومة الذي يجب أن يحل محل الحكم الديكتاتوري المستبد الذي نأمل بأن يكون قد ذهب إلى غير رجعة؟

ويتمثل التحدي الذي يواجه السياسيين والمفكرين والمواطنين العرب بصورة عامة في النظر بعيدا على نحو يتجاوز ما قد يبدو رائجا الآن، والتعامل مع مهمة إيجاد بديل، الذي على الرغم من كونه متأصلا في ثقافتهم وقيمهم، فإنه يعكس حقائق العالم الحديث.

لقد كان العرب دوما في مواجهة مع تحدي الانضمام إلى العالم الحديث، وهو العالم الذي لم يلعبوا دورا مباشرا في تكوينه، دون أن يفقدوا في الوقت نفسه شخصيتهم التي يكنون لها عظيم التقدير.

وتظهر الأحداث التي وقعت خلال الأسابيع القليلة الماضية أن العرب لا يمكنهم مواجهة التحدي من خلال النظام الديكتاتوري العسكري.