اللعب في الوقت الضائع

TT

لو سألني أحدهم الآن: ماذا تعشيت في الليلة البارحة؟! فلا شك أنني سوف أغلط بالجواب، هذا عن الأكل وهو من أبسط الأشياء وأحبها على قلبي، فكيف لو أنه سألني عن الأرقام أو أحاديث الأشخاص؟!

صحيح أنني أروي وأكتب الكثير من الحوادث والذكريات التي مررت بها، ولكنني أجزم أن هناك تفاصيل كثيرة منها قد نسيتها، وهناك تفاصيل أخرى كتبتها وأضفتها عليها وهي من بنات أفكاري، فليس كل ما أرويه وأقوله صحيحا (100%)، ولا حتى (50%) وعزائي وعذري في هذا الصدد، أن رواياتي وكتاباتي لا تقرر مصير أحد، ولا ترسم خططا لمستقبل المجتمع، ولا تهدف إلى تقويم الأخلاق، ولا تتوخى النصائح والإرشادات، ولا تضرب الأمثال والحكم الرفيعة السامية وتدعو الناس للأخذ بها.

فكل ما أرويه وأكتبه هو مجرد تسلية لنفسي أولا، (ولرفع ضغط) بعض الناس ثانيا، إنني أكتب مثلما ألعب لعبة (الكعابة) في الوقت الضائع.

ويأخذني العجب العجاب عندما يتحدث أحدهم عن فلان أنه قال: كذا وكذا، وحكى: كيت وكيت. ويسرد كل مفردات حديثه بالتفصيل الممل، مع أنه سمع حديث ذلك الشخص قبل عدة أيام، إلى درجة أنني بدأت أشك أنه كان يخبئ (ريكوردر) تحت ثيابه وهو يستمع إلى محدثه.

قد يسألني سائل محتج: لماذا أنت يا أخي تسيء الظن، فقد يكون ذلك الرجل ذكيا وحافظا وفتح الله عليه؟! وأرد على احتجاجه قائلا: إنني لا أسيء الظن ولكنني أؤكد الحقيقة.

فالأبحاث العلمية تشير إلى أننا ننسى ما نسبته (30%) مما نسمعه بعد عشرين دقيقة من سماعه، فيظل في ذاكرتنا (70%)، غير أنه ما إن تمر نصف ساعة حتى لا تستطيع تذكر إلا (50%) مما بقي في ذاكرتنا، وفي النهاية لا يبقى غير (35%)، أما بعد أسبوع فلا يبقى غير (الزبدة)، أي (2%) فقط. وهذا الكلام لم أجئ به على عواهنه، ولكنني قرأته كتجارب موثقة وميدانية أجريت كاختبارات على أكثر من ألف شخص في إنجلترا.

فمن أين لذلك الرجل الذي أخذ يروي بالتفصيل كلام ذلك الرجل؟! بل إنه يقسم بالله أن هذا هو ما سمعه منه بحذافيره كلمة كلمة، والطامة أن أغلب من في المجلس يصدقونه طالما أنه قد أقسم بالله، ثم إن كل واحد منهم سوف ينقل ما قاله ذلك الرجل عن ذلك الرجل بعد أن تتبخر حتى نسبة (2%) التي هي (زبدة) الموضوع.

ولكي أضرب لكم مثلا بعبقريتي التي لا تضاهى في مجال الحفظ، فلا يمكن أن أنسى الحرج الذي وقعت فيه، عندما اجتمعت مع سبعة أشخاص وأنا ثامنهم، ثلاثة منهم أعرفهم جيدا، أما الأربعة الآخرون فلأول مرة أقابلهم، وعندما تصافحنا في البداية أخذ كل واحد منهم يعرفني باسمه مع تقديم (البزنس كارد) العائد له: ولنفرض أن أسماءهم هي: إبراهيم وصالح ومحمد وعلي.

فالفشيلة كانت أنني كنت أخاطب صالح بـ«يا أخي إبراهيم»، وعلي بـ«يا أخي محمد». وطوال الاجتماع كنت (أخلط عباس على دباس)، فاضطر أحدهم إلى أن ينبهني إلى ذلك الغلط، فما كان مني إلا أن أطلع (الكروت) من جيبي وأقرأها وأتمعن بها لكي تكون مخاطبتي لهم سليمة، ومع ذلك غلطت أيضا، إلى درجة أنهم بدأوا يتضاحكون عليّ.

فما كان من أحدهم إلا أن يوجه كلامه لي قائلا: أرجوك (ريح نفسك) وناقشنا ولا تتلفظ بالأسماء، فنحن عاذرينك.

[email protected]