الأوامر الملكية التي أحرجت الكثيرين

TT

البطالة مثل الحروب والكوارث الطبيعية، تحتاج من الدولة في قيادتها وشعبها أن تكون على قلب رجل واحد في التعاطي معها. تحتاج للشجعان والصادقين، وتحتاج من الدولة إلى فرض الشفافية والمحاسبة.

الأوامر الملكية التي أطلقها العاهل السعودي مؤخرا أحرجت الكثيرين، فمثلا الأمر الملكي العاشر كان نصه محرجا بشكل صارخ للقطاع الخاص؛ حيث ربط وطنيته ورده للجميل بمقدار تطبيقه للسعودة وتوطين الوظائف: «أن يقوم القطاع الخاص بواجبه الوطني في هذا الأمر على أكمل وجه، وهو من تكاملت مؤسساته بما أفاء الله به على بلادنا من خير وفضل، مع استرعاء اهتمام الجميع بهذا المطلب الوطني الملح، بما يسهم في رفع نسبة تشغيل المواطنين والتواصل معهم، وتذكيرهم بمسؤولياتهم الوطنية في هذا الشأن».

بعد 20 أمرا ملكيا إصلاحيا وتنمويا، كان منتدى جدة الاقتصادي يقدم شهادته على أهمية هذه الأوامر وجديتها وتوقيتها ليكشف عن 8 ملايين وظيفة يشغلها أجانب في بلد عدد سكانه 27 مليون نسمة. المنتدى أكد أهمية الشفافية وكشف الأرقام، لأن الكثير من الفعاليات التي تمتلئ بها السوق المحلية تشبه سوق عكاظ في عصر ما قبل الإسلام؛ حيث تقدم فيها الإنجازات كقوالب للمديح والفخر، على أرض من الخيال، وعودا وأماني عريضة، يعريها الوقت.

اسمحوا لي أن أطرح مثالا على أحد القطاعات النامية في المملكة والواعدة في مكافحتها للبطالة، وكيف أن الرؤية حولها غير واضحة، وهو قطاع الصناعة.

المملكة لديها 23 مدينة صناعية، وهي ليست ضمن مناطق صناعية شهيرة كالجبيل وينبع، بل تناثرت في كل مناطق المملكة حتى استوطنت مناطق اشتهر أهلها بالزراعة مثل سدير التي ستصبح أحد مواطن صناعة السيارات. وسيزيد عدد هذه المدن إلى 30 مدينة خلال السنوات القليلة المقبلة، والقائمون عليها يؤكدون أن بناءها تم على أسس علمية حديثة في تخطيط المدن الصناعية، حتى التشجير لم يغفلوه، ليكون للبيئة نصيب من الاهتمام.

أخبار عظيمة ولا شك، ولكن السؤال البسيط هنا: من سيقوم بتشغيل هذه المدن؟

لو كانت المصانع تشتغل بخريجي الجامعات والأكاديميين فأنا أكيدة أن المملكة ستكون دولة صناعة منافسة خلال عشر سنوات، وأنا هنا أتبنى منهج التصريحات النارية، الذي أنتقده بشدة، ولكن لأني على علم بأن التعليم العالي يقوم بعمل استثنائي في تطوير ذاته، وأن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، الذي وصل عدد مبتعثيه إلى مائة ألف طالب وطالبة، سيكون حجر الزاوية في التعليم العالي خلال مرحلة قادمة ولمدة ليست بالقصيرة.

ولكن للأسف أن المصانع في كل بلاد العالم لا يشغلها حملة الشهادات الجامعية والأكاديميين، بل الفنيون والتقنيون.

لا داعي للتفكير في ماهية البدايات، لنطلع على تجارب العالم، ليس العالم الصناعي فقط، بل العالم الذي كان ناميا ثم قرر وضع أسس لمستقبله الصناعي منذ المراحل المتوسطة للتعليم.

الصناعة تحتاج خطة ما قبل إنشاء المصانع وتخطيط المدن الصناعية، تحتاج إلى أرض تعليمية حتى لا تتحول المصانع إلى مكاتب لاستقدام العمالة الأجنبية.

التعليم الصناعي يجب أن يعود بقوة إلى المدارس، التعليم الصناعي يجب أن يكون جزءا من خيارات الطالب في مرحلة مبكرة؛ تماما كما يختار التعليم الإداري أو العلمي. وخريج الثانوية الصناعية يجب أن تكون أمامه خيارات لمعاهد تقنية وفنية متخصصة في الصناعات التي قررت الدولة أن تدخلها وتقيم لها المدن، وأن يكون التعليم أساسا للتدريب المهني، وأن تكون مهارات اللغة الإنجليزية والتعامل مع التقنيات الحديثة أساسا لهذا التعليم.

والأهم أن يكون هذا المستقبل واعدا بالنسبة للطالب وجاذبا له للاختيار بأن تكون قيمة اليد العاملة الصناعية مرتفعة وذات وزن في سوق العمل كما هي في الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، بل وفي ماليزيا في المستقبل القريب.

إن حلول البطالة ليست في معادلة واحدة، والمسؤول عن تقديمها ليس فقط وزارة العمل المثقلة بالمشكلات، ولا وزارة الخدمة المدنية التي أعلنت فجأة عن وجود 156 ألف وظيفة شاغرة لديها، ولا القطاع الخاص الذي تعاني بعض كبريات شركاته من ملاحظات قوية في التعامل مع حقوق موظفيها السعوديين والأجانب، ويعلم الله وحده ما يحصل في الشركات المتوسطة والصغيرة.

ما نشاهده اليوم أن بعض جهات الدولة، وحتى بعض جهات القطاع الخاص، كل منها لديه فلسفته الخاصة في مكافحة البطالة وتوطين الوظائف، نسمعها في شكل تصريحات أو أوراق عمل من وقت لآخر، وبعض وجهات النظر هذه تتقاطع أو تتباعد، لكنها بعيدة عن بعضها في التنسيق، فتظهر ناقصة.

من الأهمية أن تقدم قطاعات الدولة الرئيسية وممثلو القطاع الخاص رؤاهم حول البطالة لجهة عليا كالمجلس الاقتصادي الأعلى، كجهة تنسيق لاستقبال هذه الرؤى ودراستها للخروج بخطة وطنية موحدة قابلة للتطبيق مبنية على تجارب دول العالم في نظام العمل والعمال وسياسات مواجهة البطالة حتى في تلك الدول التي تعاني اليوم من تزايد في أعداد العاطلين.

والعنوان العريض الذي من الضرورة أخذه في الاعتبار في الحديث عن معالجة البطالة هو ردم الفجوة ما بين الحلم والواقع.

سيكون على كل مؤسسات القطاعين، العام والخاص، إعادة تقديم دورها بإظهار أفضل قدراتها في التفاعل مع الأوامر الملكية، التي وضعتها أمام مسؤوليتها الوطنية في المحافظة على استقرار البلد وتنميته، بمحاسبة من ولي الأمر، ومساءلة من النظام، ورقابة من المجتمع.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود