مبادرة عباس.. والاحتمالات

TT

حين ينشر هذا المقال.. ووفق ما سمعنا مباشرة من الرئيس محمود عباس، أثناء اجتماعات المجلس المركزي في رام الله، قبل أيام، يكون وفد أمني وإداري، وربما إعلامي، قد وصل إلى قطاع غزة، تحضيرا لزيارة عباس المرتقبة، التي أعلن عن أنها ستكون لتتويج اتفاق وليس لتدشين حوار.

ومع اليقين بحاجة عباس لهذه المبادرة بعد أن سدت كل السبل التي كانت مفتوحة ولو على نحو موارب، فإن نجاحها غير مضمون وإمكانية تحولها إلى قفزة في الهواء واردة وقريبة الاحتمال، رغم أن الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني تدعمها وتدعو لها بكل إخلاص كي تنجح وتحقق وحدة الوطن.

السيناريوهات المحتملة

أولا: أن تلتقط حماس المبادرة، وتتعامل معها بمنطق من جاءته فرصة حل إلى داره، فترحب بعباس وتقبل فكرته الأساسية، وهي تشكيل حكومة كفاءات تتولى مع لجنة الانتخابات المركزية الإعداد السياسي والإداري والفني للانتخابات الوطنية والتشريعية والرئاسية. وإذا ما نظرت حماس للأمور من هذه الزاوية، فلا يوجد أي معوق يذكر بين المبادرة والنجاح، ويصبح ممكنا خروج الجميع من المأزق مع تحقيق المطلب الشعبي الملح الذي رفع شعاره في كل أرجاء الوطن بأربع كلمات لا خامس لها: «الشعب يريد إنهاء الانقسام».

ثانيا: أن تتخذ حماس من المبادرة دليلا على أنها كانت طيلة السنوات الماضية على حق، وأنها سبق أن طلبت من عباس الحضور إلى قطاع غزة ولكنه لم يفعل، وبوسعها القول، إنه فضل المضي قدما في سيناريو المفاوضات والحلول، وبالتالي لم يكن بحاجة إلى قفزة من هذا النوع. أما الآن وقد سدت الأبواب واشتعلت المنطقة بالثورات، فقد انقلبت المعادلة القديمة لمصلحة أخرى جديدة قوامها أن يضع عباس كل أوراقه في رهان مصيري على اتفاق مع حماس، يقول فيه للتاريخ إن الانشقاق ولد في عهده وفي ذات العهد انتهى.

إن سيناريو كهذا وارد أكثر من الذي سبقه، بل إن الطريقة التي ردت بها حماس على مبادرة عباس تتجه نحو توظيفها في هذا الاتجاه، وربما مع الأيام المقبلة يظهر التوظيف ذاته، بصورة أكثر وضوحا، أن عباس مضطر للتغاضي عن توظيف حماس لمبادرته ومضطر لابتلاع كل الحسك الذي يجاور اللحم، لعله يصل أخيرا إلى ما يريد حتى لو استقرت الأمور على عشرة مقابل تسعين كمعادلة أمر واقع يحتاجها الظرف وتفرضها الطرق المسدودة.

ثالثا: وهنالك سيناريو ينافس السيناريوهين آنفي الذكر، وهذا قائم على منطقية الافتراضات والاستنتاجات وليس المعلومات.

إن حماس التي أخذت علما بالمأزق السياسي الذي يواجهه عباس والذي اعتبرته الدافع المباشر لهذه المبادرة لديها تحليل آخر وهو أن العالم وفي مقدمته أميركا تفكر جديا في فتح خطوط مع الإخوان المسلمين بكافة أسمائهم ومواقعهم، فهي ترى - ووفق تسريباتها شبه الرسمية والمباشرة - أن هذه الحركة المصرية العالمية تمتلك مؤهلات فتح حوار معها وحتى الاتفاق، فالإخوان المسلمون أبرياء من الإرهاب الدولي وأظهروا تميزا واضحا عن «القاعدة»، ومن يماثلها في الفهم والسلوك. وبالتالي، فإن الاتفاق مع عباس، وهو في أضعف حالاته كما يقدرون، سيوفر لهم مزايا أكبر بكثير من الاستمرار في سجن قطاع غزة، بل وسيفتح أمامهم أبواب الضفة وكل العالم ما دامت اتفاقات السلام التي كان موقف حماس منها عائقا بينها وبين الاعتراف الأميركي وحتى الإسرائيلي بها قد فشلت. ولا يضر أميركا وإسرائيل أن تتعدل الشروط ويتغير بعضها، فبدل اعتراف حماس المسبق بإسرائيل صراحة والتزامها نصا بما التزمت به منظمة التحرير، يكفي التعهد بإرجاع شاليط إلى أهله والامتناع كليا عن استخدام السلاح والاشتراك في مفاوضات مع إسرائيل على حل مؤقت، ربما يؤدي إلى حل دائم، حيث الفرص في هذا الاتجاه أكثر منطقية من الفرص القديمة، إذ أثبتت حماس كفاءتها وجدارتها أولا بالاستيلاء على السلطة عبر صندوق الاقتراع، ثم التزامها بتخفيض خطر الإزعاج الصاروخي منذ انقلابها وصمودها تحت وابل الرصاص المصبوب وقدرتها على ضبط القطاع بصورة أفضل بكثير من قدرة سلطة عباس على ضبطه قبل الانقلاب.

إضافة إلى الرسائل الدرامية التي وجهتها لإسرائيل عبر بعض العمليات الناجحة، مثل تلك التي وقعت في الخليل أي بتلك التي قالت فيها إننا قادرون على تثبيت معادلة معقدة قوامها القدرة على توفير الهدوء في غزة واختراق أمن السلطة في الضفة.

ولقد وجدت هذه الرسالة من يقرأها جيدا في إسرائيل ويستوعبها، وإن لم يبن سياسة عليها، فقد تم أخذها بعين الاعتبار.

هذا السيناريو وإن كان منطقيا، فإنه لم ينضج بعد سياسيا وعمليا، ولعل حماس تحاول الإفادة منه، فلعلها تتخلص من الخوف من أن تظل على رأس قائمة التصفية العسكرية لمصلحة الاطمئنان إلى دخول منطقة الشراكة متأبطة ذراع فتح وقد توفر لها الانتخابات المراد إجراؤها فرص أن تكون الطرف القوي.

بين المنطقي والممكن تحقيقه على المدى المنظور أشياء لا نعرفها، ربما تكون في جعبة عباس وجعبة خالد مشعل، وعلى ذمة ميدان التحرير وما تلاه، وربما كل هذه السيناريوهات الثلاثة مجرد استنتاج قد لا يكون له فرص التحقق عمليا على الأقل خلال زيارة عباس والأسابيع التي تليها حتى سبتمبر (أيلول).

كل شيء في بلادنا ومنطقتنا عرضة لأن يجتاحه تسونامي سياسي لم تكن اليابان تقدر أن مفاعلاتها الذرية ستتداعى ذات يوم بفعل الزلازل، وعندنا لا نعرف أي زلزال سياسي سيأتي ليطيح بالمعادلات والاستنتاجات ويستبدلها بأخرى، الله وحده أعلم.