بين المحبة والضغينة

TT

قامت فلسفة غاندي على المحبة: أحبب عدوك واغفر له. قالوا: كان من السهل تبني ذلك في تعامله مع الإنجليز لرقة طبعهم ودماثتهم، وبصورة عامة احترامهم للقوانين وحقوق الإنسان. هذا سهل مع عدو ناعم، ولكن ما بالك مع عدو غاشم، كالاحتلال النازي؟ هكذا كان من السهل للمرأة المصرية أن تهدي وردة للجندي المصري وتبتسم نحوه وتلاطفه. كلاهما ابن وطن ودين واحد، وهما يشتركان في المعاناة. أيسهل على الفلسطينية أن تتعامل مع الجندي الإسرائيلي بالروح نفسها؟ ما يجب عليها أن تتذكره هو أن عددا غير قليل من الإسرائيليين يتعاطفون مع قضيتها ويحملون القسط الأكبر في فضح الاعتداءات الإسرائيلية وخرقها لحقوق الفلسطينيين. ما علينا أن نفعله هو أن نكثر هذا العدد القليل لا أن نقلله برميه بالحجارة والصواريخ.

واجهت الشعوب الأوروبية هذه المحنة خلال الاحتلال النازي. تبنوا المقاومة المدنية. من أهم أركانها المقاطعة. كان الألمان يسعون لنيل محبة هذه الشعوب والاندماج بها والتعاون معها في إطار «النظام الجديد». رد المقاومون على ذلك بسلاح المقاطعة وعدم التعاون. إذا نظم الألمان مباراة كرة قدم ودية مع فريق محلي، حضروا للملعب ورأوا كل المدرجات خالية من المتفرجين. إذا جاءوا بفرقة موسيقية لإحياء حفلة سيمفونية لم يشتر أحد تذاكرها. إذا دخل ضابط ألماني لمرقص خرج الزبائن واحدا واحدا، حتى خلت القاعة ولم يجد الضابط من يراقصها. وغيرت الفرقة عزفها من موسيقى الرقص إلى أناشيد وطنية فلكلورية.

أصدروا منشورات دورية سرية تضمنت تعليمات للمقاومة: إذا جاءك الألماني بسيارته لإصلاح عطل فيها فأصلح العطل واخلق عطلا أخطر فيها. إذا سألك عن عنوان فوجهه باتجاه عكس ما يريد، ونحو النهر إذا أمكن ليسقط فيه. غيروا ليلا إشارات المرور والقطارات بحيث تضطرب حركة المرور والسفر على الجيش الألماني. وحيثما أمكن، كانت النساء العجائز والشيوخ يقفون ويعترضون زحف الدبابات الألمانية ويتناقشون ويؤنبون العساكر على استيلائهم لوطنهم ويتحدونهم بالزحف على أجسامهم.

سألوا، بعد الحرب، القادة الألمان عن آثار المقاومة الوطنية فقالوا إن المقاومة المسلحة لم تكن تزعجهم. لا أحد يضاهي الضابط اليونكرز في استعمال القوة لإخماد أي قوة مقابلة. يعرف كيف يسحق أي دبابة في طريقه، ولكن كيف يسحق امرأة عجوزا مثل أمه تقف أمامه؟ اعترف القادة الألمان بأن أصعب ما عانوه كان من المقاومة المدنية، الجهاد المدني.

كثيرا ما ارتبط الجهاد المدني بشخصيات دينية؛ نظرا لأن سائر الأديان تحض على المحبة والسلام والروح السلامية والدفع بالتي هي أحسن. ظهر في الهند كثير من علماء الإسلام ممن انضموا لحركة غاندي، كما ذكرت. وفي إيران بشر الشيخ الشيرازي بمثل ذلك. بيد أن عالمنا العربي افتقر حقا إلى مشايخ يحملون هذه الراية المشرفة، سواء في مقارعة الاستعمار أو الاحتلال الإسرائيلي أو تحدي الأنظمة العربية الدكتاتورية. أصبحت الحاجة لمثل هؤلاء المشايخ ماسة ونحن نعاني الإرهاب والعنف والتخريب.