حوران تاريخ له رجال وشهداء

TT

كان أبي محبا للريف. أمضى شبابه وجانبا من كهولته مزارعا. وكانت آخر تجاربه الريفية غير الرابحة أرضا في «عصم» القرية التي تستلقي في حضن سهل حوران الذي يلتهب اليوم غضبا. ونارا. ودماء.

وكنت أرافق أبي إلى حوران مضطرا. فقد كنت طفلا. كانت رمادية السهل الواسع توحي لي بالحزن. بالسأم. فأنا ابن المدينة بصخبها. بحيويتها. واليوم، في منفاي البعيد، نادرا ما أزور الريف الفرنسي (لا كامبانيو). فهو يحاكي رمادية ريف حوران.

لكن مشهد القرية كان مسليا. كان الفلاحون أشبه بالهنود الحمر، في فيلم (كاوبوي) مثير لخيال طفولتي: الوجوه صارمة. الشفاه مطبقة. مزمومة. اللحى قصيرة. رقع موزعة بعناية على صفحة الوجه الصلد. العباءة العربية فضفاضة. العقال رائع. ما زلت أعتبر العقال والعباءة أجمل أزياء الدنيا.

الحوارنة فرسان. شجعان متقشفون. في نفوسهم، كبرياء تخفي فقرهم. الحورانية حاسرة الوجه. الرأس ملتفع بقبة قماشية مزركشة بألوان الثوب الطويل الملون. الجمال الريفي آسر ببياضه المشرب بخمرية اللون الحنطي. كان الأهل يأتون بالصبية إلى دمشق. يشترون لها حذاء أحمر ثقيلا خاصا بالحوارنة، من سوق مسقوف ضيق لصيق بجدار المسجد الأموي.

لم تكن الصبية تشعر باكتمال أنوثتها، إلا إذا طرقت أرض دمشق بمسامير حذاء يثير ضجة حذاء عسكري. تعود به إلى قريتها. تحتذيه وهي ترتل أهازيج تقليدية، فيما الحصان يدور بلوحها الخشبي فوق محصول القمح، ليفصل حبة القمح عن قشرتها، في موسم الحصاد.

هكذا، عرفت حوران. قطعا، هذه المشاهد الفولكلورية الريفية اختفت منذ زمن بعيد. يكاد العقال والعباءة يغيبان. لبس الجيل الجديد البنطال. غادر الشباب قرى السهل الحزين. رحلوا إلى دمشق طلبا للعلم وللعمل. أو غامروا بعبور الحدود والجبال إلى لبنان، كعمال بناء. في الحرب الأهلية، مات المئات من العمال الحوارنة الذين فاجأتهم حواجز المتقاتلين، في زواريب بيروت التي لا يعرف منحنياتها غير المقيمين بها.

حوران تاريخ مجيد، له رجال. وشهداء. تاريخ أنصع إشراقا من رمادية السهل الحزين.

ذات يوم، عبر محمد الشاب الأمين السهل، بتجارة السيدة خديجة. على بساط السهل، التحم العرب المسلمون بجيش بيزنطة الإمبراطوري. قاتل المسيحيون الغساسنة (سكان السهل) مع أشقائهم المسلمين الإمبراطورية التي كانوا يحمون ثغورها الصحراوية.

في السهل الأمين، ما زال الانتماء القومي يتقدم الانتماء الديني. منذ 1400 سنة، تتعايش القرى المسيحية والمسلمة، في إخاء وسلام، من حوران السورية شمالا، إلى معان الأردنية جنوبا. العباءة واحدة. العقال لا يميز بين المسيحي في الكنيسة، عن المسلم في المسجد.

في التاريخ الحديث، كان سهل حوران مدخلا لقوات الثورة العربية التي حررت سورية (1916) من خمسة قرون تركية. ينسى الذين يهرقون الدماء في درعا والصنمين، اليوم، أن الحوارنة كانوا أول السوريين الذين ثاروا على الاستعمار.

شهر قائد الغزو الجنرال غورو سيفه أمام ضريح صلاح الدين بدمشق صائحا: «ها قد عدنا يا صلاح الدين». ثم خرج مزهوا، إلى سهل حوران، في أول جولة سورية له (1920). كمن له الثوار الحوارنة. فقد الجنرال يده التي شهرت سيفه. وكاد يفقد حياته. كان الرصاص غزيرا. فتك الحوارنة بوزرائه العملاء في الحكومة المدنية التي شكلها. بالطبع، كان هناك ثأر. وانتقام. وشهداء. تماما، كما هناك اليوم، انتقام. وشهداء!

في الاستقلال والانفصال عن الشام، كانت العشيرة الأردنية أفضل حظا من شقيقتها العشيرة الحورانية عبر الحدود. باتت العشيرة الأردنية عمادا شعبيا يستند إليه النظام الهاشمي. نالت نصيبها من الرعاية والسلطة، ممثلة بقوة في مؤسساته العسكرية. والأمنية. والتنفيذية (الحكومة). والتشريعية (مجلسي النواب والأعيان). في سورية، كرم جمال عبد الناصر العشيرة الحورانية. سحب ضباطها الكبار من الجيش. وزرهم حفظا لكرامتهم كوحدويين متحمسين، واتقاء لشغبهم كضباط مسيسين.

الحوارنة، على فقرهم. وجفاء طبعهم. وشدة بأسهم، قوم أذكياء. مناورون. استخدموا حذرهم وتحفظهم، في التعامل مع نظامي صلاح جديد وحافظ الأسد. الحوارنة عشائر وأسر سنية شديدة المحافظة، في السياسة والدين. زار الأسد الأب حوران في مطلع حكمه. استقبل بحفاوة شعبية، نكاية وابتهاجا بالتخلص من عهد مظلم فرضه سلفه وخصمه صلاح جديد.

عندما ألغى الأسد السياسة، اعترضت سنة حماه على «علمانية» دستوره الجديد، وتنصيب ضابط علوي رئيسا (لدولة غالبيتها سنية). لم تشارك سنة حوران سنة حماه. لم تعتصم. لم تتمرد. لم تشارك الإخوان المسلمين عندما شنوا حرب الاغتيالات الطائفية، ضد الأطر الإدارية العلوية.

من هنا، كافأ نظام الأسد الأب الحوارنة، على بقائهم على الحياد. ثم اجتذبهم. أغراهم. فصاروا ضباطا كبارا. وحراسا، بل و«جلادين» في مؤسسته الأمنية والقمعية، في سورية ولبنان. ارتقى الحوارنة في السلطة والحزب الحاكم. تم توزير فاروق الشرع (ابن الأسرة الدينية الحورانية) وزيرا للخارجية. ثم نائبا لرئيس الجمهورية. ترأس المهندس محمود الزعبي الحكومة سنوات عدة في التسعينات. وها هو الدبلوماسي الحوراني اللامع فيصل المقداد، ينتظر تقاعد وليد المعلم، ليحل محله وزيرا للخارجية.

في عصر الأسد الابن، غامت العلاقة الودية بين النظام والحوارنة. انتحر محمود الزعبي بعدما سحب منه منصب رئيس الحكومة. قيل إنه نحر. قيل إنه اعترض على التوريث. اختصرت المؤسسة الأمنية المخيفة مراسم تشييعه شعبيا وإعلاميا. سحب منصب الخارجية من نده فاروق الشرع. رفع إلى الأعلى نائبا للرئيس. غير أنه بات أقل ظهورا ونفوذا، منذ أن عين ضابط أمن كبير مساعدا له، وربما رقيبا عليه.

في الانسحاب السوري من لبنان، إثر اغتيال رفيق الحريري (2005)، فقد العميد (الحوراني) رستم غزالة منصبه الأمني ونفوذه السياسي. إلى الآن، لم ينتحر أو ينحر. كما حدث لرئيسه السابق اللواء غازي كنعان الذي حكم لبنان، قبله، سنين طويلة، من مخفر مجدل عنجر على الحدود بين البلدين.

«ليالي الأنس في فيينا»! رفع العميد غزالة إلى رتبة لواء. لكن تم إيفاده مكرها مع شلة من ضباطه الأمنيين إلى العاصمة النمساوية سرا وخفية، ليتولى محققو محكمة الحريري الدولية التحقيق معهم. ذهب غزالة متهما. عاد شاهدا (ما شافش حاجة). لحسن حظه، حل «غزلان» حزب الله محله في دائرة الاتهام بتصفية الحريري. لكن الرئيس بشار يهدد الغزالة رستم من حين إلى آخر، مرددا بأنه سيحاكم بتهمة «الخيانة العظمى» كل سوري يثبت تورطه في جريمة الاغتيال.

إلى الآن. لا الشرع. لا المقداد. لا الغزالة، استقالوا. أو أقيلوا. أو انتحروا. أو نحروا. صمتوا عن سفك الدماء. لكن حوران الشهيدة حققت نصرا سياسيا كبيرا. انتزعت للسوريين بدمائها وعودا بالإصلاح. هل بشار قادر على تحقيق الوعود؟ أم ينساها، كما نسي الأب، يوما في عام 1980، وعودا بالديمقراطية لنقابات الصيادلة. المحامين. المهندسين. الأطباء؟ لنلتقط الأنفاس. ولنحاول البحث عن جواب في الثلاثاء المقبل، وليس بعد ثلاثين سنة.