من الثورة الفرنسية إلى الثورة العربية

TT

منذ البداية أود طرح السؤال التالي: هل الانتفاضات العربية التي أدهشت العالم ذات دلالة تاريخية كبرى، أم أنها حدث عابر متوسط الأهمية؟ هل يمكن تشبيه هذه الانتفاضات العارمة بتلك الثورة الكبرى التي دشنت العصور الحديثة، أقصد الثورة الفرنسية؟ لا أزال أتذكر ذلك الدرس الشهير الذي ألقاه ميشال فوكو في الكوليج دو فرانس لكي يشرح لنا رأي كانط في التنوير والثورة الفرنسية. وهما حدثان مترابطان بشكل عضوي. وكنت قد وصلت متأخرا فلم أجد مكانا في القاعة الرئيسية المزدحمة جدا فحضرت الدرس غيابيا في القاعة المجاورة؛ حيث انتصب ميكروفون وسطها لكي تسمعه من دون أن تراه.. قال ما معناه: كانط يعلمنا أن التعاطف مع الثورة لا يقل أهمية تقريبا عن المشاركة فيها مباشرة؛ فالتعاطف معها أو التحمس لها يحيطانها بحزام من الحب والدعم وحرارة الوهج والإشعاع. يضاف إلى ذلك أن هذا التعاطف مع الثورة وتضحياتها هو علامة لا تخطئ على أنه يوجد في صميم الجنس البشري ميل إلى التقدم الأخلاقي، أي ميل لحب الخير وكره الشر المتمثل بأنظمة الفساد وسجن الباستيل والحكم البوليسي الرهيب. وحتى لو فشلت الثورة الفرنسية مؤقتا في تحقيق هدفها، إلا أن البذرة التي زرعتها لا تنسى وكذلك الشعلة التي أشعلتها. فهذه الثورة ربما تذكرتها شعوب أخرى في أمكنة أخرى وأعادت التجربة نفسها من أجل الحرية.

والآن ما الذي يحصل في العالم العربي؟ ألا تعيد هذه الانتفاضات الربيعية ذكرى الثورة الفرنسية التي أطاحت بالحكم الإطلاقي المستبد؟ ألا تحقق نبوءة كانط بعد أكثر من مائتي سنة على موته؟ لقد حاولوا إيهامنا بأن الشعوب العربية ليست ناضجة للحرية أو ليست أهلا لها. يحصل ذلك كما لو أن الحرية ليست حقا طبيعيا لكل البشر، أو لكأن العرب والمسلمين ليسوا بشرا! ولكن لكي لا نسقط في الديماغوجية ينبغي أن نعمق الفكرة أكثر. كان جان جاك روسو، أستاذ كانط، يقول هذه العبارة العميقة: من كثرة تعودنا على العبودية نفقد حتى الرغبة في التخلص منها! بمعنى: تصبح العبودية الخانعة مستبطنة في أعماق كل منا ومترسخة. لقد ألفناها إلى درجة أننا لم نعد نستطيع العيش من دونها. وهذا يعني أن أنظمة الاستبداد المطلق تفسد حتى الروح أو قل تقتل شرارة الروح من الداخل، وهذا شر أنواع العبودية. انظر علاقة القذافي بالشعب الليبي مثلا.. انظر لمن لا يزالون يهتفون له في باب العزيزية. عندئذ لا تعود بحاجة لمن يقمعك وإنما تصبح تقمع نفسك بنفسك أو تصفق للديكتاتور الذي يذبحك أو يذبح شعبك. عندئذ تصبح بحاجة إلى جرعة يومية من القمع لكي تعيش بها أو تتوازن عليها. على هذا النحو خنعت الشعوب العربية على مدار العقود الماضية. ولكن يبدو أن شعلة الحياة، أو شعلة الحرية، لم تمت في أعماقها كليا فانفجرت انفجارا بعد أن طفح الكيل. وكانت هذه الانتفاضات الرائعة التي لا تزال تتوالى فصولا أمام أعيننا. وكان أن تنفسنا الصعداء.. وحتى لو لم تحقق هذه الانتفاضات العربية إلا نصف أو ربع ما تحلم به فيكفي أنها حصلت وأننا شممنا رائحة الحرية لأول مرة في تاريخنا. فمن الواضح أن التنوير الذي سبق الثورة الفرنسية ومهد لها الطريق لم يتحقق إلا جزئيا فيما يخص الثورة العربية. للدلالة على ذلك يكفي أن نقارن بين الدستور المصري الذي صوتوا عليه مؤخرا، والإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية. من هنا وجه القلق.. لنستمع إلى هيغل الذي صفق أيضا بكلتا يديه للثورة الفرنسية:

«كانت تلك إشراقة الشمس الرائعة! كل المفكرين هللوا للحدث العظيم. وراحت المشاعر السماوية ترين على العقول في تلك الفترة التي توهج فيها التاريخ. راحت فرحة الروح تجعل العالم يرتعش»!

هكذا نلاحظ أن هيغل يستطيع أن يكون شاعرا، ومن أعلى طراز، عندما يريد.. لكن لنعد إلى كانط العجوز، أستاذ هيغل الشاب، الذي نافسه على عرش الفلسفة الألمانية وزحزحه قليلا.. لنعد إلى فكرته الأساسية: لقد كشفت الثورة الفرنسية عن شيء مخبوء في أعماق الجنس البشري ولم يكن معروفا سابقا، ألا وهو قابلية الجنس البشري للتحسن والتقدم وتجسيد الحرية والديمقراطية ودولة القانون على هذه الأرض. وهذا شيء لا يقدر بثمن. هذا كنز نحمله في أعماقنا من دون أن ندري. بمعنى آخر هناك بذرة أخلاقية كامنة في أعماق الإنسان ولا تنتظر إلا الظروف المواتية لكي تنمو وتتفتح. وهذا يعني أن حكم العقل والقانون والنظام ممكن وأن الإنسان ليس مدانا لأن يعيش في ظل أنظمة الفساد والاعتباط والسجون والمعتقلات إلى أبد الدهر. بمعنى آخر فإن الجنس البشري قادر على الخروج من شرط العبودية إلى شرط الحرية والمسؤولية. لكن كم من الدماء سوف تسفك؟ وكم من التضحيات الجسام سوف تبذل قبل أن يتحقق هذا الهدف العظيم؟ لقد ابتدأت الشعوب العربية تدفع الفاتورة.. وبالتالي فيستحسن أن يصغي الحكام إلى مطالب الشعب قبل أن تتفاقم الأمور ويحصل ما لا تحمد عقباه. ولو أن لويس السادس عشر كان ذكيا وعرف كيف يقوم بالإصلاحات المناسبة قبل فوات الأوان لما كان الانفجار الكبير الذي كلف فرنسا غاليا.