التقرير والتهديد والاعتذار

TT

سألني أحد الصحافيين الغربيين المهتمين بمتابعة أحداث المنطقة العربية هذه الأيام (وما أكثرهم وما أكثرها!): لماذا تعتقد أن القذافي قام بمهاجمة مواطنيه المحتجين بضراوة بالغة، مستخدما الطيارات الحربية القتالية ويطلق عليهم أعتى الأسلحة المدمرة والفتاكة؟ جاوبته بهدوء شديد وقلت له: أعتقد، صادقا، أنه ألهمه تصرفات إسرائيل حيال سكان غزة العزل وتدميرها لهم وقتلها بشكل مقنن ومتواصل مخلفة مئات من القتلى وأرتالا من الجرحى ودمارا بلا رادع ولا حساب ولا عقاب، فاعتقد القذافي أن بإمكانه تكرار نفس المشهد الدموي مجددا.

وقد كان، حتى حينما صدر القرار الأممي القاضي بالتدخل العسكري الدولي لحماية المدنيين في ليبيا ضد آلة القذافي المدمرة، كان القذافي يعتقد أن بإمكانه ضرب هذا القرار بعرض الحائط، وأنه لن يكترث به ولم لا؟! أولم يشاهد إسرائيل وحكوماتها وهي تحتقر وتزدري كل القرارات الأممية الصادرة بحقها وتتصرف ضد هذه القرارات حرفيا؟! اليوم تتمادى إسرائيل في رعونتها السياسية، وبعد أن مارست ضغوطا مهولة وتهديدات مبطنة كثيرة على رئيس لجنة التحقيق الدولية بحق أحداث قطاع غزة بعد أن دمرها الطيران الإسرائيلي وفظع في أطفالها وشيوخها ونسائها وقتل المئات وشرد وجرح الآلاف في القطاع، ورئيس اللجنة هو القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون الذي أصدر تقريرا مهما يدين فيه الجيش الإسرائيلي وحماس على تصرفاتهما الخاطئة التي تسببت في تفاقم الوضع في القطاع.

ومنذ أيام وبعد الضغوط المهولة التي تعرض لها غولدستون من قبل منظمات وقوى الضغط اليهودية حول العالم التي كانت تشكك في نزاهته الأخلاقية وجدارته المهنية، وحتى في سلامة ونقاء عقيدته اليهودية نفسها، مما جعله على قائمة «عار» دولية.. منذ أيام اضطر غولدستون لأن يسطر بقلمه مقالا في صفحة الرأي بصحيفة «واشنطن بوست» العريقة يبدي فيه «أسفه» على ما جاء في تقريره الذي قدمه بحجة أن هناك معلومات «جديدة» لم تكن «متوافرة» لديه قدمت له من قبل الحكومة الإسرائيلية!

بينما تؤكد تقارير المنظمات الإنسانية المستقلة، مثل منظمة العفو الدولية، سقوط أكثر من 1400 قتيل فلسطيني جراء القصف الإسرائيلي بغزة، 300 منهم كانوا أطفالا، وأكثر من 15 في المائة منهم كانوا نساء، وحوالي 85 في المائة منهم كانوا رجالا فوق الخمسين عاما، وقالت أيضا إن أكثر من 200 منهم كانوا رجالا تحت الخمسين، ولكنهم غير مسلحين وعزل وأكثر من خمسة آلاف شخص سقطوا كجرحى، وذكرت أيضا أن أكثر من ثلاثة آلاف منزل والمئات الأخرى من الأملاك والمحال تم تدميرها بالكامل وأكثر من 20 ألف منشأة تم تدميرها هي الأخرى.

هذه الحقائق والأرقام والوقائع لا تكذب، ومن ارتكبها هو نفس المجرم الذي له سجل أسود من الجرائم عبر العقود والسنين السابقة وتمر دون عقاب، وله أياد وعيون وآذان تدعمه، ليس آخرها ما تم الكشف عنه بوضوح في مواقع «فيس بوك» للتواصل الاجتماعي وحجب إدارته لصفحة تنادي بإطلاق الانتفاضة الثالثة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ووضحت إدارة الموقع أن أسباب إغلاقها للصفحة هو إجراء إداري أخلاقي، لأنها لا تدعم أي موقع يحرض على العنف والكراهية، بينما نفس الإدارة سمحت بصفحات تلو الصفحات تنادي بالثورات والشهادة والانقلاب والغضب ضد الأنظمة والدول العربية، دون أن يكون لديها أي اعتراض!

مرة أخرى، إنه الكيل بمكيالين. تقرير غولدستون ليس ملكا له، هو رئيس لجنة مكلفة لإعداد تقرير عما حدث في غزة من جرائم، وشاركه في إعداد هذا التقرير فريق محترم وذو خلفيات معتبرة، وجميعهم لم يبدوا أي اعتذار، ولا خضعوا للابتزاز والتهديد. تقرير غولدستون وما جاء فيه هو للعالم، أما الاعتذار الذي أدلى به فهو بينه وبين إسرائيل.

[email protected]