ربيع العرب؟ حذار من التفاؤل

TT

في كل ندوة، أو مقابلة تلفزيونية عن مظاهرات مطالب الديمقراطية من تونس إلى اليمن، أواجه بالسؤال:

Are we seeing an Arab spring? ، أنشاهد ربيع العرب؟

ترجمة غير دقيقة لتعبير أطلقناه كصحافيين على حركة الحرية والديمقراطية التي أعقبت سقوط سور برلين، ثم رياح التغيير التي هبت على المعسكر الشيوعي، لتصل ذروتها بسقوط «ديكتاتورية البروليتاريا» في موسكو، واليوم كل المستعمرات السياسية السابقة لموسكو والمعروفة بالكتلة الشيوعية، هي ديمقراطيات برلمانية أغلبها في الاتحاد الأوروبي (أكبر تجمع سياغرافي - سوقمشتركي ديمقراطي عرفه التاريخ).

وكلمة «spring» كاسم وفعل تعني ربيعا، وينبوع ماء، وفعل انبثاق الماء من العيون والقفز، وقفزا، وزمبركا (سوستة بالمصري)، وينتفض. ومن المعاني المشتركة (والمتقاربة باعتبار أن الربيع يشهد انتفاضة البراعم والأزهار على الأغصان)، أطلقنا التعبير على مرحلة المقرطة والتحرر الشعبي في بلدان شرق أوروبا من شتاء 1989 وحتى صيف 1990.

أثناء ثورة اللوتس، ورمزها صوت الحرية في ميدان التحرير بدأت مظاهرات المطالبة بالحقوق الديمقراطية في البلدان العربية. وعند طرح السؤال كان التفاؤل الحذر يلقنني: «إذا قارنا تونس 2011 ببولندا أو رومانيا 1989 فإن مصر ستكون مثل الاتحاد السوفياتي عام 1990». وانهيار أوليغاركية تحالف الوطني/ السلفيين/الفساد، بقاعدة أمنية عسكرية؛ سيكون له انعكاس كبير نحو التقدم على أمم شمال أفريقيا والشرق الأوسط. مثلما كان قضاء عسكر انقلاب 1952 على النظام البرلماني التعددي، نموذجا احتذى به أكثر من كولونيل في بلاد العرب (باستثناء العراق، فقد كان عبد الكريم قاسم برتبة أميرالاي Lieutenant General).

يوم السبت 12 فبراير (شباط) عند خروج الطبقة المتوسطة المصرية، من طبيبات ومحامين ومهندسات ومعلمين، يكنسون الشوارع وينظفون مصرهم عقب إقالة الرئيس مبارك (لم نسمعه يقول إنه استقال ولم نر استقالة موقعة باسمه)، ازدادت جرعة التفاؤل في «سوفت وير» دماغي.

استرجعت النهضة المصرية وتأسيس قاعدة الثقافة الحديثة في عهد الخديو إسماعيل، وتفتح أفق الأزهر، الذي أنار عقول مسلمي العالم بفتاوى تقهر الجهل وترفع من شأن العلم والفنون والثقافة. أزهر عصر النهضة المصرية كان ينهر عن تجميد العقول والقلوب، وكان يبارك الفنون ويدعم الفنانين ومنهم المسرحي الشيخ سلامة حجازي، والموسيقار الشيخ سيد درويش، والملحن الشيخ زكريا أحمد؛ وآخرهم فنان الشعب المصري الشيخ إمام عيسى. دعم الأزهر للفنون جعل من السينما المصرية رابع أكبر صناعة فيلم في العالم، درت ثالث أكبر دخل بعد القطن وقناة السويس (لم تتوسع السياحة إلا بعد الحرب الثانية). وانعكس ذلك بدوره على شمال أفريقيا والشرق الأوسط وتركيا، وبلدان العالم الإسلامي في آسيا، حيث كان حلم أي فنان أو مبدع، أن تحتضنه مصر وينبغ فيها.

ولذا كان تفاؤلي بأن نهضة مصر في القرن الـ21، سيكون لها أثر مماثل لنهضة الخديو إسماعيل الذي كان الأزهر في عهده نموذجا نحلم أن نصل إليه اليوم. أزهر منارة للفقه الإسلامي المستنير الطليعي القائد ليخرج منه علماء يحملون مشاعل الإنارة لبقية العالم الإسلامي شرقا وغربا.

ألم يخرج من الأزهر في القرن الـ19 رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، وسعى إليه جمال الدين الأفغاني (وكان علامة ما يعرف الآن بالهند وباكستان وأفغانستان) لينهل من نبع المعرفة فيه؟

أزهر في القرن الـ21 بمكانة واستنارة عصر النهضة المصرية، سيكون هو السبيل الأول لمسلمي العالم للقضاء على التطرف وعصابات تجارة الإرهاب باسم الدين؛ فالإرهاب والجهل توأمان لا ينفصلان؛ وإنارة العقول أهم كثيرا من الاستخبارات، وأطواق الأمن.

وللأسف جف نبع التفاؤل، ليس فقط بمحاولة سرقة ثورة اللوتس من أهالي ورفاق شهداء ميدان التحرير، وإنما من سقوط القتلى والجرحى في ليبيا واليمن، وسورية. والأخيرة حالة خاصة، ربما لأن النظام فيها هو الوحيد (إلى جانب إيران) الذي اخترع إشاعة ثم صدقها!

إشاعة أن الشعوب التي تطالب بحريتها، إنما ثارت لأن حكوماتها تصادق أميركا ولا تقف في محور دمشق - إيران ضد إسرائيل!

العنف الدموي والبطش الذي شهدناه، ووصل إلى حد حرب أهلية غير متكافئة يستخدم فيها الكولونيل القذافي الأسلحة الثقيلة التي يشغلها مرتزقة من أكثر من ست جنسيات، ضد الشعب الليبي، وسقوط المئات قتلى وآلاف الجرحى، لم يواجه شعوب أوروبا الشرقية، فلم يوجه حراس ألمانيا الشيوعية سلاحهم إلى صدور من حطموا جدار برلين.

وهذا ليس بالفارق الوحيد (فما واجه متظاهري اليمن وسورية مثلا لم يواجه متظاهري مصر)، وإنما الفارق التاريخ الأهم الذي جعلني أتراجع أن استخدام تعبير Arab spring، هو فارق التقبل الذهني الفردي للجديد، التقبل للحالة الديمقراطية ومطاطية العقل الليبرالي، الذي يتسع لتعدديات معظمها جديد على الفرد وتعوده، لكن عقله تدرب في تطوره على تقبلها وتجربتها واستخدامها منهجا في دراسته، أو تجارته، أو نشاطه السياسي؛ وحتى التحول عنها وتقبل جديد أو غريب أفكار أو نماذج أخرى، ولا مانع من التنقل والتبدل بضع مرات.

الفارق في نظام التعليم نفسه ومناهجه، وتنشئة المجتمع للصغار.

فالمسافة الزمنية بين انتقال بلدان كالمجر والتشيك، وبولندا من قتل الديمقراطية (باجتياح النازي في بداية الحرب الثانية، ووقوعهم في قبضة ستالين الشيوعية في نهايتها) إلى التحول للنظام البرلماني الديمقراطي بانتخاب حكومة بالأغلبية، حيث وزير الدفاع سياسي مدني منتخب وليس جنرالا، مساوية (50 عاما) لفترة الديكتاتوريات العسكرية التي مر بها شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وعلى الرغم من هيمنة الفكر الماركسي اللينيني على توجهات الدولة والرأي العام، فإن بقية فروع مناهج التعليم من كلاسيكيات، وجغرافيا ولغات وعلوم، كانت في مستوى راق، ينافس مثيلاتها في الغرب. وذلك بعكس عباءة التجهيل التي بسطها تحول التعليم في البلدان العربية من مفهوم «وزارة المعارف»، باستراتيجية طه حسين، إلى مفهوم شمولية العسكر «التربية» بتطويع عقل الطفل على تلقي جرعات التربية، بدلا من البحث عن المعرفة.

التعليم الديني بدوره تحول من الفلسفة الروحانية للإيمان، إلى تلقين نصوص محددة واشتباه ومضة الاجتهاد في العقل تعرض التلميذ لعصا الملقن أو لتهمة الزندقة إذا كان معلما. ولذا فالتعليم «المعرفي» في الكتلة الشيوعية السابقة، سهل على عقول أفرادها تقبل التعددية وتجربة ديمقراطية أعداء الأمس؛ بينما ارتعدت عقلية أفراد مجتمعات «التربية» من استقلالية التفكير. النظام انغلق في دائرة محيطها الخارجي بنادق موجهة للصدور والمحتجون تجمدوا في مرحلة التظاهر في انتظار الزعيم الملهم.

للأسف جف نبع التفاؤل ليس فقط بمحاولة سرقة ثورة اللوتس من أهالي ورفاق ضحايا ميدان التحرير وإنما من سقوط القتلى والجرحى في ليبيا واليمن وسورية