أكبر من تغيير النظام!

TT

مع نهاية مرحلة الصدمة والبدء بالتفكر بطبيعة ونتائج وآفاق ما يحصل في المنطقة، يمكننا القول إن هنالك تحديا رئيسيا يواجه جميع بلدان المنطقة، وإن بدرجات متفاوتة، وهو تحدٍّ تستوي فيه الدول التي شهدت تغييرا للنظام، أو التي تشهد مثل هذا التغيير، أو التي لم تستطع أن تحدث التغيير. إنه تحدي بناء مفهوم جديد للدولة يقوم على مفهوم مختلف للمواطنة، وبرأيي إنه الفارق الأساسي الذي سيجعل هذه المرحلة توصف مستقبلا بأنها مرحلة ثورية، أو مجرد تغيير سطحي في طبيعة الأنظمة السياسية.

الإخفاق العربي لا يتمثل فقط بالفشل حتى الآن في تقديم نموذج ديمقراطي صحي، بل أيضا في إخفاق معظم البلدان العربية بمعالجة مشكلة الهوية الوطنية وفق مقاربة تسهم باستيعاب جميع السكان ولا تؤدي إلى إقصاء أي طرف على أساس هويته الإثنية أو اللغوية أو الدينية أو الطائفية. البلدان العربية شأنها شأن الكثير من البلدان ما بعد الكولونيالية حاولت أن تتبنى آيديولوجية لبناء الدولة تقوم على الدمج الثقافي، وعلى السعي لجعل جميع السكان متجانسين ومتشابهين. لكن هذه السياسة غالبا ما يصيبها الإخفاق، بل وتؤدي أحيانا إلى رد فعل معاكس؛ حيث تلجأ بعض الجماعات إلى التخندق وراء هويتها الفرعية لحماية نفسها وتأكيد ذاتها بمواجهة دولة تلجأ إلى وسائل الدمج القسري.

المشكلة كانت تكمن أيضا في أن معظم الدول العربية كانت بنية السلطة فيها تقوم على الولاءات الفرعية؛ بحيث تهيمن نخبة منتمية إلى مجموعة سكانية معينة ومتمايزة عن غيرها من المجموعات على السلطة، وهي هيمنة قد لا تتأتى عن وعي ونزعة إقصائية مسبقة بقدر ما أنها تقترن بأولوية عنصر الولاء واستخدام علاقات القرابة أو الروابط الإقليمية أو المحلية كضوابط لتشكيل حلقات حامية ومستفيدة من السلطة، وبطبيعة الحال، فإن تراكم هذه النزعة يؤدي إلى إنتاج فوارق اجتماعية تسمح لجماعات معينة بميزات أفضل من الجماعات الأخرى على صعيد الحراكين الاجتماعي والسياسي. ونحن نتحدث هنا عن منطقة تلعب فيها الدولة دورا مهيمنا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتعليميا وثقافيا وخدميا، أي أنها دولة ذات قدرة شبه كلية يمكنها بقراراتها وسياساتها أن تسمح لفئات واسعة بالترقي والصعود، وأن تهمش فئات أخرى. وحيث تغيب المعايير المؤسساتية الراسخة والآليات الديمقراطية، تصبح علاقات الولاء والتخادم هي الآلية المهيمنة.

هكذا أدت فكرة الدمج القسري المرافقة لعمليات إقصاء سياسي واجتماعي فعلي إلى حالة تعزز فيها التشرذم الاجتماعي وصعدت فيها الهويات الفرعية، بل وتحولت إلى مظلات تلتجئ إليها الجماعات المهمشة في مقابل الجماعات المستفيدة، بينما ظلت الوطنية ذات طابع خطابي رسمي في الكثير من الحالات. ونرى اليوم أن بعض الأنظمة تمكنت من البقاء فقط لأن بديلها المحتمل هو الحرب الأهلية أو الفوضى، فهذه الأنظمة كرست التشرذم الاجتماعي عبر السياسات الإقصائية وأسهمت بالتالي بتعزيز الانقسام بين المستفيدين والمتضررين، وحتى لو لم يكن ذلك عملا قصديا، فإنه بدا أن هذه الأنظمة تعمل من أجل أن يكون بقاؤها مرهونا باستحالة البديل، وهي ربما بنت وجودها على علاقات نفعية يغدو معها من الصعب الخروج من النفق بإجراءات إصلاحية جذرية وحقيقية لأن أي إصلاح لا بد أن يُبنى على فتح فضاء الحراكين السياسي والاجتماعي أمام جميع الفئات، بما يعنيه ذلك من خلق منافسين للفئات المنتفعة، ومن هنا تكون معارضة تلك الفئات للإصلاح مبنية على تصورها أنه سيضر بامتيازاتها ونفوذها، وأي جهد إصلاحي حقيقي تتم مواجهته من داخل النظام نفسه، من أولئك الذين يفضلون الانحناء للعاصفة عبر إجراءات ترقيعية ومؤقتة. لكن مثل هذا السلوك في هذه المرحلة سيمثل قصر نظر كبيرا في فهم طبيعة الاحتجاجات الراهنة وعلاقتها بالتغيير الاجتماعي والآفاق الاقتصادية المغلقة والعولمة.

لكن تحدي ما بعد تغيير النظام يظل السؤال المقبل الأكبر، فهل التغيير الحاصل في بعض البلدان هو عملية نقل للسلطة من جماعة إلى جماعة أخرى، بحيث تتغير النخبة لكن الآليات تبقى نفسها، أم أنه عملية تغيير جذري للآليات ولعلاقة الدولة بالمجتمع، هدفها توسيع نطاق المشاركة لتشمل المواطنين كلهم، بغض النظر عن انتماءاتهم وهوياتهم الدينية والإثنية واللغوية والطائفية؟

بعد تغيير النظام في العراق، وهو بلد يتسم مجتمعه بالتنوع الشديد ومر خلال تاريخه بذات الأزمة المتعلقة باقتصار السلطة على فئات محددة وسد آفاق الحراكين الاجتماعي والسياسي أمام فئات كثيرة، مال الأميركيون وغيرهم من مؤسسي النظام الجديد إلى اعتماد مبدأ الديمقراطية التوافقية التي تسعى لتمثيل كل الهويات الفرعية في هيكل السلطة، وبعبارة أخرى، ساد اعتقاد أنه بتوزيع السلطة بين السنة والشيعة والأكراد، ستتم معالجة إشكالية التفرد والإقصاء. ربما أسهم ذلك بخلق قاعدة أوسع للسلطة، لكنه بالمقابل خلق علاقات إقصائية جديدة مرتبطة أساسا بحقيقة أن هذه الهويات ليست نهائية وأزلية وموحدة وليس كل المواطنين ميالين إلى تصنيفهم على أساسها، وبالتالي إن تشكيل النظام على أساس ديمومة هذه التقسيمات وثباتها إنما يؤدي لعلاقات إقصائية، لا سيما لقوى المجتمع المدني الحديث التي هضمت المفهوم الوطني - المدني للهوية. أضف إلى ذلك أنه نظام خلق دولة شبه عاجزة عن العمل بسبب حدة الانقسامات داخل مؤسساتها، مما جعل المجتمع يعاني إشكالية غياب الدولة بعد أن كان يعاني تنمرها.

إن الحل يكمن بتحرير النظام السياسي من هذه القوالب، سواء جاءت بصيغة الدمج الثقافي وما ينطوي عليه من هيمنة فئة معينة على غيرها، وبالتالي إقامة علاقات من الإقصاء الحاد، أو التعددية الثقافية بما تعنيه من تقسيم المجتمع إلى مجموعات مختلفة ومتمايزة وما يجره ذلك من إدامة غياب الإحساس بالهوية الوطنية وتهميش الطبقات المدنية الحديثة. إن دولة المواطنة هي دولة لا تقوم على إنكار هوية الفرد الفرعية ولا تشيطنها، وهي تحترم انتماء الفرد إلى أي مجموعة إثنية أو لغوية أو دينية أو طائفية أو قبلية، لكنها تفترض أن هذا الانتماء لا يغير من مكانة الفرد ولا يعطي لأي فرد ميزة على غيره.

إخفاقنا بإدارة التنوع جعلنا نشهد مؤخرا تقسيم بلد عربي (السودان)، وقبل ذلك شهدنا نزاعا أهليا في العراق، وحربا أهلية في لبنان، وحربا أهلية اليوم في ليبيا، وصدامات طائفية في مصر، ومخاوف من التغيير في سورية واليمن. سيظل الأمر كذلك، ما دامت النظم السياسية تبنى على تلك التصدعات وعلى ديمومتها، بدلا من أن تبنى على تخطيها والتحرر منها.