الثابت والمتحول في سياسة تركيا الليبية

TT

في الوقت الذي كانت فيه السفن التركية تبحر ناقلة مئات الجرحى الليبيين الذين أصيبوا في اقتتال الإخوة للمعالجة في المستشفيات التركية، كانت مظاهرات نظمتها قوى الثوار والمعارضة تمنع سفينة المساعدات التي أمرت حكومة العدالة والتنمية بإرسالها تضامنا مع الشعب الليبي في محنته هذه الاقتراب من ميناء بنغازي وتضرب طوقا حول القنصلية التركية في المدينة تعبر من خلاله عن رفضها لموقف أنقرة ولمضمون بعض بنود وساطتها الأخيرة باتجاه حل الأزمة الليبية.

حكومة أردوغان لم تنجح على ما يبدو حتى الساعة في إقناع ثوار ليبيا بقبول خارطة الطريق التي طرحتها كمخرج لإنقاذ البلاد من معاناتها بل على العكس فإن أصواتا في صفوف المعارضة تنتقد ازدواجية السياسة التركية ومواقفها في التعامل مع المسائل، ملمحة إلى أن هذه الوساطة تهدف بشكل غير معلن إلى منع تسليح الثوار وتعويم نظام القذافي وإبقائه في السلطة، مذكرة بأن الخطوة الأولى على طريق بادرة حسن النية هي إعادة الجائزة التي قدمها القذافي العام المنصرم لأردوغان باسم مناصرة المضطهدين، وكمدافع أول عن حقوق الإنسان.

حكومة العدالة والتنمية تحمل كما هي العادة أكثر من سلة بيض بيد واحدة. تصر على أن المغامرة لا بد منها، وأن لا خيار آخر سوى المجازفة عبر حقل الألغام هذا حتى ولو كان الثمن مكلفا، خصوصا أنها دعمت منذ البداية مطالب التغيير والانتقال الديمقراطي والإصغاء إلى صوت الشارع في دول المنطقة، وأنها لا تريد أن تتحول مثل هذه الفرص إلى مشاريع تحريض مذهبي أو طائفي أو عرقي تهدد بنيتها وتركيبتها الحساسة هي قبل غيرها. لكن بعض الثوار في ليبيا توقفوا عند أجندة تركية من خلال وساطتها هذه لها علاقة مباشرة بحماية العقود المالية والتجارية مع نظام القذافي ومواجهة التمدد الغربي في أفريقيا مركز الثقل الجديد في سياستها الإقليمية، وأن فكرة الانتقال السلمي للسلطة لا تعني إبعاد القذافي وأبنائه عن الحكم بالمفهوم التركي.

أنقرة تقول إنها متمسكة بالمضي في وساطتها حتى النهاية وهي تردد أن شخصيات في صفوف الثوار على اتصال دائم بها كما هو الحال بالنسبة لقيادات نظام القذافي وأنها لن تفرط في جهودها هذه بسبب ضغوطات محلية وإقليمية ودولية تصر على إبعادها عن الساحة الليبية وتحويل البلاد إلى بركان ينفجر فيهدد وحدة وسيادة واستقلالية ليبيا. لكن الثوار أعلنوا أن مواقف العدالة والتنمية جاءت مخيبة لآمالهم وأقل من المتوقع بكثير وأن المبادرة تحمل انحيازا واضحا للقذافي، خصوصا في رفض فكرة تسليحهم.

حكومة أردوغان قالتها منذ البداية إنها مع الإصغاء إلى صوت الشارع وضرورة الاستجابة إلى تحقيق مطالبه وتخلي نظام القذافي عن أسلوب البطش والعنف وإنها لن تتدخل في إسقاط نظام أو ولادة حكومة بديلة في ليبيا وإن الهم الأول هو منع تحويل القرار الدولي الأخير الذي دعمته تركيا كخطوة عاجلة لوقف الاقتتال إلى ورقة سياسية تقود لإطالة عمر الأزمة وتعميق الفجوة بين الليبيين ليكون الحل البديل مشروع الدولتين الغربية والشرقية. لكن المعارضة الليبية غاضبة وهي على حق، لأن «أكل العصي ليس مثل عدها» كما يقول المثل العربي، وأن القذافي لم يتردد في استخدام كل ما بيده من سلاح فتاك ضدها للرد على مطلب التغيير والإصلاح.

الرؤية التركية كما يردد داود أوغلو هدفها الأول هو وقف إطلاق النار والعمليات الحربية بين الشعب الليبي وقطع الطريق على استعدادات تجري على قدم وساق لتوسيع رقعة العمليات الحربية باسم قوات الأطلسي أو تقديم الفرصة للقرار الدولي الأخير للتمدد والانتشار سياسيا وقانونيا وأمنيا باسم الدفاع عن المدنيين وتأمين الانتقال السلمي للسلطة وهذا ما يعني في أحسن الأحوال تدويل الأزمة بغطاء عربي – إسلامي كما حدث في العراق قبل 8 سنوات.

لكن الكثيرين يرددون أن دعوة القذافي للإصغاء إلى صوت الشارع لا تقل أهمية عن الإصغاء إلى ما سيقود إليه صوت القذائف والصواريخ المتواصل في المدن الليبية، وأن المبادرة التركية ليست أكثر من فرصة بين الفرص التي تقودها في هذه الآونة قيادات عربية وإسلامية وأفريقية لقطع الطريق على مشاريع وأحلام تحويل الصراع من أجل ليبيا إلى صراع على ليبيا.