مأزق الثورات.. الفرد المعطل!

TT

ليس من حديث اليوم أكثر سخونة من ثورات غير مكتملة وانقلاب مفاهيمي وشعوري على ثورتين أنجزتا مرحلة ما يريده الشعب «إسقاط النظام» وارتبكتا كثيرا في المرحلة التالية لما كان يريده ويهتف به.

من دون الدخول في تفاصيل البلدان التي مستها الثورة بنارها أو نورها يمكن القول إننا كلنا في الثورات - كما الهم – شرق؛ ربما ثمة اختلافات بدت لكثير من المراقبين جوهرية حول ثورة ناعمة وأخرى سلسة وثالثة متعسرة ورابعة متشظية، وهكذا.. لكن هذه الأشكال الثورية هي تفاصيل لشروط وموانع ومؤثرات خارجية وداخلية بالطبع أكثر من كونها تعبيرا عن اختلاف نوعي ببنى ثقافية ووعي سياسي متقدم للفرد الذي استنفد في المرحلة الأولى من «إسقاط النظام» باعتباره رقما مؤثرا وأصبح أو يراد له أن يصبح «معطلا» عن الفعل السياسي أو التأثير على المرحلة اللاحقة، هذا التعطيل ليس بالضرورة عن سبق إصرار وتعمد، بل هو نتيجة لهامشية دور الفرد «الفردانية» كرافعة لنهضة أي مجتمع وتطوره.

في التفاصيل لا شك أن العلاقة معقدة بين الفرد والمجتمع، وقد أرهقت فلاسفة ومفكري العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع تحديدا، هل هي علاقة مبنية على الصراع، كما يؤكد ماركس وميلز، الذي طور مفهوم الصراع، أم هي مبنية على العلاقة الوظيفية، كما يذهب إليه دوركهيام أبو الاجتماع الحديث، حيث الفرد جزء من نسق عضوي متكامل وظيفيا يلعب دوره وفقا لمنطق التوازن بين القوى المؤثرة.

وبعيدا عن هذه العلاقة الجدلية بين من يصنع الآخر أو طبيعة العلاقة، فإن ما كنت أريد قوله فيما يخص فرد اليوم في العالم والزمان العربي وعلاقته بالثورات: إنها كرست لتلك العلاقة المتوترة بين الفرد والمنطق الجمعي، سواء أكانت تعبر عنه ثقافة سائدة أم تيارات اجتماعية مسيطرة على المشهد الاجتماعي.. هذه الثورات أكدت أن الفرد في العالم العربي وكثير من بلدان الشرق الأوسط لم يحقق فردانيته، وما زال خاضعا لمنطق الجماعة بكل تنوعاتها القبلية والحزبية والجهوية والطائفية، فهذه المحددات تصهر الفرد داخلها بحيث ينتهي دوره كرقم ورأسمال عددي يتم استخدامه في أجندة المجموع، هذه الذرائعية الجمعية تعززها ثقافة عريضة وإرث ضخم من الصراعات التي عادة ما تنحاز لطرف دون آخر ويغيب فيها الفرد.

في الضفة الأخرى وبشكل عام ليس من الخافي القول إن جذر الثقافة الغربية ورأسها برافديها الأوروبي والأميركي يقومان على احترام كينونة الفرد باعتباره جزءا مستقلا عن بناء المجتمع الكلي، هذا الفرد هو قيمة اعتبارية بحد ذاته بما يملكه ويمثله ويتطلع إليه بغض النظر عن انتماءاته خارج كونه فردا، كل تمثلاته الجمعية لا تؤثر على فرديته كمواطن؛ فالعلاقة به ومعه مبنية على أساس المواطنة وبشكل مباشر من دون أن تمر عبر تشكلات اجتماعية طاردة ومذيبة لحقه الفردي في التعبير والممارسة، هذا لا يعني أنه قد لا ينخرط في أي نشاط اجتماعي أو سياسي حزبي، لكنه يفعل ذلك عن وعي وقصدية وليس لأن منسوب المواطنة لديه متدن بسبب أنه لا ينظر إليه ككينونة مستقلة إلا حين تشكل ثقلا نوعيا بانضمامه إلى تيار آخر، هذا التيار أو الحزب أو الجماعة، سمها ما شئت، قد تمنحه ذلك التقدير وجواز العبور لمواطنتها ذات الحدود الضيقة.

غياب دور الفرد في الثقافة العربية، طبقا للكتاب الذي حرره حازم صاغية وحمل عنوان «مأزق الفرد في الشرق الأوسط»، أسهم في تعطل المشروع الحداثي في المنطق، على عكس السياق الغربي الذي كانت العلاقة طردية بين تطور مفهوم الفرد وقوة الدولة وازدهارها الاقتصادي.. نحن بهذا الفهم للفردية أو الفردانية نتحدث عن فرد جديد في الزمن ما بعد الصناعي القائم على المبادرة الفردية والابتكار الشخصي وحرية الناس في التعبير والاتصال وشعورهم بذاتهم؛ حيث باتت هذه المسائل تلعب دورها في الاقتصاد أكثر من السابق، وبحسب عبارة رشيقة لصاغية: «الفرد دائما موجود كفرد، لكن الوعي به بات مرهونا بالفردية».

ما الذي حدث للفرد مع الثورات؟! من الصعب البت في سؤال كهذا، لكن يمكن القول، وفق المعطيات والمؤشرات الأولية، إنه غاب كمؤثر وحضر كرقم، تاريخيا، كما نعلم، تعطل الفرد عن الفعل والتأثير قابله البحث عن نموذج الفرد/ المجموع أو الفرد البطل، الذي يجسد الواحد في الكل؛ حيث تعلق عليه الآمال والأمنيات بدءا من نموذج عبد الناصر، وصولا إلى نماذج أخرى أقل ربما كاريزمية وحدة، وإذا كان الاستحضار أو عقلية المخلص تجلت في طريقة عمل التيارات السياسية والأحزاب الثورية، فإنها تجلت منذ اللحظة الأولى للثورات الجديدة، فعلى الرغم من أنها ثورات عفوية منزوعة الطابع التنظيمي، على الأقل في بداياتها، فإنها سرعان ما تم البحث لها عن رموز ونجوم وأساطير، الكثير تمنى مثلا أن يكون ولد البوعزيزي ولو خطأ في مجتمعه باعتبار وجود أسباب ذاتية لا يمكن أن تتكرر إلا في شخصه.. آخرون نظروا إلى وائل غنيم ودوره في الثورة المصرية بطريقة أسطورية تقترب من شخصية أبطال أفلام هوليوود، وهكذا في كل ثورة تموت أساطير فردية كان يظن أنها أكبر من أن تتغير إلا بالموت، وتولد أساطير أخرى تنزع من سياقها الموضوعي في عملية إحلال لا واعية يقوم بها الفرد المعطل عن الفعل والفاعلية.

هذا الفرد الآن في لحظة ما بعد اندلاع حريق الثورات يشعر بالضياع، بارتباك في الرؤية وحتى الطموح؛ فهو من جهة يريد التغيير، لكنه يرى أنه غير مهيأ للعب دور فاعل فيه أكثر من انحيازه لقوى وجماعات أخرى.

وإذا كان الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل قد قال ذات مرة: «درجة عاطفة الفرد ترتبط عكسيا بمعرفة الحقائق»، فإن فرد عالم الثورات يعاني اليوم تلك الحقائق الممضة بفجاجتها كمرارة الفوضى التي تعانيها المجتمعات بسبب الفراغ السياسي، بتلك البراغماتية الغربية التي تتعامل بها الدول الغربية مع الثورات، مع أكذوبة الشعارات القومية والشمولية التي اندحرت على صخرة الواقع، ذلك الواقع الذي لا يعني الفرد إلا إذا شكل بقيمته الذاتية وما يحمله من إمكانات قوة يمكن أن يجابه بها ثقافة المجموع وسلطة السائد.

[email protected]