لمصر والعرب.. لا لمبارك

TT

كثير من التشفي الممزوج بالفرح والشماتة صاحب القبض على نجلي الرئيس المصري السابق وإيداعهما السجن التحفظي، وأيضا صاحب الأخبار التي تقول، إن تحقيقا قد تم مع الرئيس السابق شخصيا، وإيداع عدد من أركان النظام المباركي - الذين يتكاثرون - في السجون، منهم من أذله المال، ومنهم من أغرته السلطة، وظهر أن الهرم القيادي المصري يتصدع على أنغام الشامتين.

الأمر ليس سهلا أو بسيطا حتى يستطيع من هو خارج الصورة إصدار حكم مع أو ضد ما يجري وببرود، خاصة بمرئيات معاكسة للتيار الأوسع لصيحات التشفي، فمن يده في النار ليس كمن يده في الماء، كما يقول المثل العربي، إلا أن الرأي الآخر وجب أن يقال، وهو اجتهاد آن الصدح به. في الوقت الذي لا مناص فيه من الاعتراف بأحقية الشعب المصري أن يسترد أمواله من مغتصبيها بالطريق القانوني المتعارف عليه ويحق الحق، بعيدا عن التعميم والتصيد.

أفهم أن هناك كثيرا من الظلم وقع على شرائح كثيرة من الشعب المصري، واعرف أن متخذي القرار كانوا إما لا يريدون أن يسمعوا آهات الناس، أو حتى صراخهم، أو أنهم سمعوها فتجاهلوها، على أنها مؤقتة ومبالغ فيها، وهذا جزء - مع الأسف من الثقافة السياسية العربية - التي تكنس المشكلات تحت السجاد، وتؤخر الحلول، حتى تقع الفأس في الرأس.

أنتوني بارسون كان آخر سفير بريطاني لدى بلاط الشاه الإيراني محمد رضا، وكتب كتابا عن تجربته، قال فيه إنه لما كانت المظاهرات تعم مدن إيران منددة بحكم الشاه، سأله الشاه في إحدى المقابلات، هل هؤلاء يهتفون بحياتي وتأييدا لي، هكذا أراد أن يفهم! وفي كتاب آخر لفت النظر إليه مؤخرا بشدة، كتبه جون براندلي بالإنجليزية تحت عنوان «داخل مصر» نشر عام 2008 لخص الكاتب الذي جال في مصر، الواقع المصري، بأنه «سقوط حر للخصخصة من فوق، يقابله توسع إسلامي من تحت، مما يضع النظام المصري في حالة اختطاف متبادل». لم يتقدم أحد ليقرأ الأحداث كما هي وكانت الأجراس تدق، والكثيرون يؤمنون أن «الشعب المصري صبور إلى درجة كبيرة، غير أن لصبره حدودا»! إلا أن النقطة العمياء هي نفسها لدى كثير من الأنظمة، الحدث قريب، لكنه غير مرئي لهم.

نعود إلى الحدث الحالي، مع كل التصحر السياسي السابق، فإن المقلق أن يقدم السيد حسني مبارك للمحاكمة استجابة لذلك التشفي أو تحقيقا لشماتة شعبية عاطفية. هذا العمل في تقديري مخالف للحكمة وللمصلحة المرسلة أيضا ولمستقبل مصر والعرب.

في حال المحاكمة، هناك العديد من الأوراق سوف تخلط، سوف تتوجه الأنظار العالمية والمحلية بكل قوة لتفاصيل المحاكم وجزئياتها، ويتفرغ الإعلام الدولي والإقليمي لهذا الأمر، فالإعلام يحب «الدم» إن صح التعبير، كما أن المحاكمة سوف تطيل من فترة عدم الاستقرار في مصر، وهذا سوف يؤثر على مصالح الناس ويضر بالأمن القومي المصري، ويقلب صورة التغيير في مصر من سلمي جماهيري إلى شماتة وتصفية حسابات.

تلك بعض الأسباب، إلا أن النتائج الأخرى قد تكون أكثر كارثية، فليس من الضروري - إلا إذا اتبعنا عواطفنا - أن المحاكمة وما يتفرع عنها، سوف تردع آخرين عن التصرف بمثل ما تصرف به رجال النظام السابق. منع ذلك التصرف وما يشبهه، يكون ببناء نظام سياسي مؤسساتي ومعتمد على هيكلية قانونية واضحة ومنسجمة مع التطورات الحضارية السائدة في العالم، نظام عقلاني لا شخصاني.

المستقبل أهم من الماضي

جر الناس إلى تفاصيل الماضي يفقد النظر إلى المستقبل، والأمثلة كثيرة. طورد شاه إيران من بلد إلى آخر وشردت عائلته وشهر به وبها على أوسع نطاق وشنق معظم أفراد نظامه، كل هذا لم يمنع النظام الجديد في إيران من أن يرتكب نفس حماقات الشاه من مطاردة المعارضين وتوسيع بناء السجون وتكميم الأفواه. وفي تجربة أخرى قريبة هي العراق، كل الآمال أن يولد نظام يتعظ بما أجرم فيه سابقه باءت - حتى الساعة - بالفشل الذريع، وتقول لنا الأرقام العالمية إن أكبر بلد يغشاه الفساد اليوم على وجه البسيطة هو العراق. فالعبرة إذن ليست في الشكل الذي يتخذ ضد نظام سابق، إنما بالعمل الجاد لبناء نظام جديد، يمنع من داخله إصابته بالسوس السياسي. في حال آخر، وعلى المضاد من ذلك، تجربة جنوب أفريقيا التي توافق رجالها على مصالحة لا تتجاوز الماضي وسوءاته، ولكنها ترى أن الأكثر صلاحا هو بناء المستقبل، وهكذا كان. ولدينا مثال آخر هو ما فعله السيد ريتشارد نيكسون من اختراق لكل القيم الديمقراطية الأميركية، ولما أزيح من منصبه الكبير في أول ظاهرة ديمقراطية من نوعها، قام خلفه جيرالد فورد بقفل الملف. ليس فقط احتراما لموقع الرئيس الذي كان، بل انتقالا لملفات أكبر وأخطر، وهي رأب الصدع الذي حدث في المؤسسات وفي المجتمع الأميركي على نطاق واسع، وليس أهم من رأب الصدع اليوم في المجتمع المصري.

تعرف النخبة المصرية على وجه اليقين أن القرارات المصيرية لا تتخذ في الشارع. الشارع المصري قام بواجبه في وقت حرج، بعد أن بلغ السيل الزبى، إلا أن مستقبل الشعوب لا يقرر هناك، تقرره النخب الواعية، هكذا هو تاريخ الشعوب ومصر ليست استثناء. من الخطأ للنخبة الانتقالية الحالية أن تعتقد أنها تؤسس لها قاعدة شعبية للمستقبل عندما تفتح صناديق الاقتراع من طريق الإمعان في اتهام آخرين دون دليل إرضاء لشارع، هي الآن تستجيب لأكثر المشاعر حدة، إلا أن هذه المشاعر سوف تأكل الأخضر واليابس. أولا رأس الهرم ثم من يليه ويليه، ثم من يليه، حتى أصغر باش شاويش، قرر مرة أن يردع بائع خضار مخالفا، من عرض بضاعته الفاسدة في الشارع! وبالتالي تستنزف النخب القادرة على بناء المستقبل وتأكل نفسها.

من الملاحظ ما قاله رئيس الوزراء المصري لوفد اقتصادي كويتي زار مصر مؤخرا، قال: «هناك عشرات الآلاف من البلاغات ضد عدد كبير من الأشخاص في السلطة المباركية».

إذن سوف تنشغل الدولة المصرية بما هو داخلي حتى الرقبة، وتترك غصبا الاهتمام بالمحيط العربي والإقليمي، وهو مهم جدا لاستقرار مصر وما حولها، كما أن فتح الباب لكل من يريد الحصول على مكاسب (الآن وفورا) أو يأخذ بثأر (الآن وفورا) وصفة لتصدع المجتمع المصري وتوهنه. إذا أضفنا لكل ذلك ما يحدث في المنطقة من تقلصات سياسية تحمل الكثير مما حمله الحراك الشعبي في مصر، فإن الضحايا سوف يكونون بالمئات بل بالآلاف، إن اعتقدت المجموعات الحاكمة التي يدق بابها بعنف الآن، أن مصيرها - مهما حدث - المحاكمات في المستقبل، فسيجعلها ذلك متشبثة بما هي عليه حتى الموت. الأهمية القصوى هي ليست محاكمة مبارك وطاقمه، الأهم هو بناء مؤسسي يمنع خلق فرعون جديد، ولن يتأتى إلا بإنشاء جهاز قضائي مستقل وتركيب مؤسسات تقدم حلولا استباقية في الرقابة والمتابعة.

على النقيض يمكن أن يحقق المصريون نصرا تاريخيا له علاقة بالجو العام العالمي لو تم التغيير بأقل ما يمكن من الألم، وبكثير من إعمال الفكر في بناء مجتمع مؤسسي. تقديري أن الشطط في التعامل مع رجال الماضي سوف يخلق بذور شطط قادم قد يكون أسوأ، العقل العربي يحب النهايات السعيدة، في السياسة لا توجد نهايات فقط بل بدايات أيضا، وقد تعلمنا من تاريخنا الحديث أن نبكي على يوم كنا نبكي منه. لذلك من أجل المستقبل ومصر والعرب أدركوا أن التشفي والشماتة من القيم السلبية، خاصة في السياسة.