التعليم.. الحل الاستراتيجي الوحيد لمواجهة تزايد الإسلاموفوبيا والعنصرية

TT

نجح كتاب «سوء التعليم في الغرب: كيف شوهت المدارس والإعلام فهمنا للعالم الإسلامي» (2004) الذي وضعه جو كنتشلو وتشارلي ستنبورغ؛ وكتاب «مواجهة الإسلاموفوبيا في أنظمتنا التعليمية» (2004) الذي حرره باري فان دريل، إضافة إلى الكثير من الأبحاث والدراسات الأخرى، في إلقاء الضوء على حقيقة أن ظاهرة إرهاب الإسلام ومعاداته عند الغرب لها جذور تاريخية عميقة، وأن التحدي ذو أوجه متعددة.

ويطرح الكتابان عددا من الاقتراحات والتوصيات، كما يناقشان الدور الذي لعبته الأنظمة التعليمية في الغرب، وكذلك الإعلام الغربي، في نشر الخوف غير المسوغ من الإسلام وتشويهه ومعاداته. ففي مختلف مراحل التعليم في الغرب يتم هذا، ليس فقط عن طريق ما يدرس، بل على وجه أهم في ما لا يدرس.. إننا نتحدث هنا عن ألف سنة مفقودة من التاريخ سجلت إسهامات ضخمة للمسلمين في الحضارة الإنسانية في مختلف مجالات الحياة، ثم لا نكاد نجد لها أثرا في المناهج التعليمية للغرب. فعلى سبيل المثال تبدأ دروس التاريخ والحضارة في الغرب بأفلاطون، ثم تقفز إلى ليوناردو دافنشي، مهملة كل ما قدمه الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية خلال ما أطلق عليه «عصور الظلام»، التي لم تكن مظلمة على الإطلاق! وقد كتب حول الموضوع وبعمق البروفسور جاك كودي في عدة مؤلفات، منها «الشرق في الغرب» نشر عام 1996، وكتابه الذي نشر عام 2006 تحت عنوان «سرقة التاريخ» وكتابه الأخير «نهضات: النهضة الوحيدة أم نهضات كثيرة» والذي نشر عام 2010، وكافة هذه الكتب صدرت عن جامعة كامبردج. ويعتبر البروفسور كودي من أبرز علماء العلوم الاجتماعية في العالم، خاصة علم الإنسان، ويشكل كتابه «نهضات» استمرارا للتحليل النقدي التاريخي لنظرية «المركزية الأوروبية» التي تدعي أن أوروبا هي مركز الحضارة، وأن عصر النهضة الأوروبية هو بداية النهضة العالمية المعاصرة. ويبين كودي في مؤلفاته أن أفريقيا وآسيا والعالم الإسلامي كان لديها «نهضات حضارية» سبقت النهضة الأوروبية في كثير من أوجهها ونتاجاتها وأفكارها. ويقدم في كتابه «سرقة التاريخ» نقدا علميا لاذعا للكتابات التاريخية الغربية التي أدت إلى «سرقة الغرب لإنجازات المجتمعات الأخرى، خاصة في مواضيع الديمقراطية والرأسمالية والفرد والحب» ومفاهيم وقيم ومثل كثيرة أخرى. ويدعو كودي إلى «منهجية مقارنة جديدة لدراسة التبادل الثقافي عبر المجتمعات والثقافات تمكنه من إعطاء نتائج محنكة أكثر في تقييم النتاجات التاريخية المتشعبة والمختلفة، التي ستلغي ما ينظر إليه الآن ببساطة على أنه اختلاف بين الشرق والغرب».

ويذكر كودي في مطلع كتابه هذا أنه لا يرى أن «الضياء الأول» لبداية النهضة الإيطالية في القرن الرابع عشر هو لحظة تاريخية «حاسمة» في تطوير المدنية الحديثة، ليس فقط من خلال الفنون والعلوم، بل من خلال التطور الاقتصادي الذي مهد للرأسمالية أيضا. ويعتقد كودي أنه لا يمكن إنكار أنها كانت لحظة تاريخية مهمة في التاريخ الإيطالي، وحتى في العالم، ولكن السؤال هو ما إذا كانت هذه اللحظة لحظة استثنائية وفريدة بشكل عام. هنا، يرى كودي وجود إشكال تاريخي محدد، إضافة إلى إشكال اجتماعي. فكل المجتمعات الراكدة تحتاج إلى نوع من «إعادة ولادة» تمكنها من التحرك مرة أخرى، وقد يتطلب ذلك النظر إلى مرحلة أو مراحل سابقة أو يتطلب نوعا آخر من التطور والحراك. ويشرح كودي موقفه الجدلي من الموضوع، بأنه لا يرى النهضة الإيطالية كمفتاح للمدنية الحديثة وسياسة رأس المال، لأن هذا ادعاء روج له المؤمنون «بالمركزية الأوروبية»، بل يرى أن جذور هذه النهضة يمكن العثور عليها بشكل واسع، ليس فقط في المعرفة العربية، بل أيضا في استعارات كبيرة من الهند والصين.

وإضافة إلى البروفسور كودي كتب الكثير من المفكرين والأكاديميين في قضايا ذات علاقة بالموضوع، منهم جون أوبسون في كتابه «الأصول الشرقية للحضارة الغربية» (2004). يرى أوبسون أن الشرق الأوسط المسلم وشمال أفريقيا وجنوب شرقي آسيا واليابان والصين هي التي مكنت الغرب الحديث من النهوض. ويؤكد أن إسهامات فاسكو دي غاما، على سبيل المثال، تتلاشى في الظل أمام ما حققه الشرقيون، وأن الصناعة الغربية الحديثة نبتت، إلى حد كبير، باستعارة الخبرة والمعرفة العربية والصينية. كما يرى ج. بلاوت في كتابه «ثمانية مؤرخين يؤمنون بالمركزية الغربية» (2004) أن «المركزية الغربية» هي الادعاء بأن الأوروبيين هم أكثر إبداعا وتقدما ونبلا وشجاعة.. إلخ، من أي شعب آخر، وبأن موقع أوروبا الجغرافي هو أكثر صحية ومساعدة على الإنتاج، وأن بيئتها تشجع على الإبداع أكثر من أي موقع جغرافي آخر. وحلل بلاوت ونقد أعمال ثمانية من المؤرخين الأوروبيين الذين يؤمنون بمركزية الغرب والذين أسهموا إلى حد كبير في تشكيل وتطوير ونشر ما نفهمه الآن على أنه «تاريخ العالم»، كما فند بكل دقة الافتراضات الخاطئة لكل منهم ودورهم في ترويج فكر استعماري للتاريخ، وقدم فهما مغايرا تماما لأصول المدنية المعاصرة. وشرح مايكل هاملتون موركن في كتابه «تاريخ ضائع: التراث الدائم للعلماء والمفكرين والفنانين المسلمين» (2000) الإهمال المتعمد لإنجازات العلماء والفنانين والمفكرين المسلمين في المناهج الأكاديمية والثقافة الشعبية.

في بحثه «التعددية الثقافية: دراسة في سياسة الاعتراف بالآخر» (1992) يؤكد تشارلز تيلور: «أن هويتنا تتشكل جزئيا بالاعتراف بالآخر أو بغياب هذا الاعتراف، والأغلب بغيابه، وبسبب هذا يمكن أن يعاني شخص أو طائفة ما من أذى كبير وتشوه حقيقي إذا عزلهم الناس أو المجتمع الذي حولهم، وأظهروا الازدراء لهم والحط من شأنهم. إن عدم الاعتراف، أو سوء هذا الاعتراف، يمكن أن يلحق بالشخص الأذى، أو أن يكون شكلا من أشكال الظلم له وإلباسه قسرا غير الصورة الحقيقية له». ويرى بعضهم أن الفترة المعاصرة ربما تكون ملائمة للتعامل مع هذا الإهمال والتهميش الذي طال أمده، والذي أدى إلى تشويه وسوء فهم كبير وإلى علاقات سلبية مفجعة وإلى عنصرية متنامية وتطرف متزايد ونظرة فوقية استعلائية أدت إلى تمييز وتحيز كبير لا يمكن للقرية العالمية الصغيرة أن تتحمله أو تقبل به.

تقول الدكتورة منى أبو الفضل في كتابها «هنا يلتقي الشرق بالغرب» (نشر بطبعته الثانية عام 2010): «يبدو أن الغرب يحاول أن ينفتح على تاريخه وأن يتذكر بطرق لم يكن قد سلكها منذ قرون... فالغرب يسعى حاليا للنظر إلى الماضي بطريقة تاريخية مغايرة لا تعتبر التاريخ مسرحا منغلقا وأنه البطل الوحيد في المسرحية... يوجد اليوم ميل واضح من قبل غرب الحداثة وما بعدها للانفتاح على ثقافات وتقاليد الآخر في توقع بأن الآخر لديه أيضا ما يقدمه». هذا بالتأكيد تطور مهم وإيجابي، ولكن الدكتورة منى تحذر من أن «ميراث المواجهة التاريخية بين الإسلام والغرب، إضافة إلى القضايا السياسية المعاصرة، يجعل الانفتاح على التراث الإسلامي وورثته أكثر إشكالية». وهذا صحيح وواضح إلى حد بعيد. وعلى سبيل المثال فإن الطريقة التي تتعامل بها بعض الدول الأوروبية مع موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي تبين، بشكل واضح، ما أشارت إليه الدكتورة منى. إذ يرى الكثير من المراقبين والمعلقين الغربيين وغيرهم أن تركيا قد حققت تقدما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كبيرا، وأدخلت إصلاحات جذرية كثيرة لم يتمكن من تحقيق جزء منها الكثير من الدول التي ضمت إلى الاتحاد بسهولة بالغة، ويرون أن السبب هو كون تركيا دولة مسلمة (رغم علمانية نظامها)، وهذا هو العائق الوحيد أمام قبولها. ويلعب التاريخ الذي أسيء عرضه وتم تشويهه وتدريسه ونشره في المناهج الأكاديمية والثقافة الشعبية دورا كبيرا في ذلك.

إن أي استراتيجية طويلة الأمد للحد من ظاهرة إرهاب الإسلام ومعاداته وشتى مظاهر إرهاب الأجانب والعنصرية وتقليصها بشكل فعال - إن لم تكن إزالتها تماما - لا بد أن تركز على التعليم. لقد تعرض كثير من دول العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لضغوط من أجل إعادة تقييم مناهجها الدراسية في كافة المراحل التعليمية، وإزالة أي مادة يمكن أن تشجع أو تروج للعنف والكراهية ضد الغرب. وبدورها يجب أن تقوم الدول الغربية بالعمل نفسه للتخلص من أي مادة دراسية يمكن أن تشجع أو تروج لإرهاب الإسلام أو معاداته أو إرهاب الأجانب ومعاداتهم والتمييز ضدهم. وفي نفس الوقت يجب على الدول العربية والإسلامية أن تبذل الجهود للتعامل مع الفكر الغربي، فليس كل شيء في الغرب سيئا وسلبيا كما يروج البعض. إن هناك الكثير من الجوانب الإيجابية التي يمكن التعلم منه وتبنيها وتطويرها من خلال منظور إسلامي، كما يجب التعامل مع السلبيات بموضوعية، وتوجيه نقد علمي منهجي لها بدل الصراخ والعويل والرفض الشامل لكل ما هو غربي. فالبدائل لا يمكن أن تكون شعارات رنانة عاطفية فارغة من أي إسهامات فكرية وفلسفية، واستراتيجيات واقعية قابلة للتنفيذ في حل الإشكاليات المزمنة المعاصرة التي تعاني منها البشرية.

* رئيس جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في المملكة المتحدة ومستشار أكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بلندن