الثورة.. جراحة ناجحة وتمريض سيئ

TT

الحكم هو الوصول إلى السلطة والاضطلاع بها، وكلمة «الاضطلاع»، في العربية، كلمة عبقرية بحروفها القوية والمعاني التي تحتويها، ضلوع، أضلاع، ثم الاطلاع الذي يعني المعرفة، وهي تختلف كثيرا عن أقرب كلمة لها في الإنجليزية «Assume»، التي هي أقرب للهمس الناعم، ولعل ذلك هو ما يمثل الفرق بيننا وبين الغرب في الاضطلاع بالسلطة، أي في طريقة الحكم.

والثورة تحدث عندما تفشل المجتمعات في الحفاظ على كل ما هو طبيعي في آلياتها، وذلك بهدف العودة بالحياة إلى طبيعتها في هذه الآليات. الهدف من الثورة إذن هو العودة من أقصر طريق إلى الحياة الطبيعية. أي إلى ذلك التشكيل الشهير في العصر الحديث، وهو وجود سلطات ثلاث مستقلة عن بعضها البعض تعمل بانسجام لكفالة الأمن والحرية للمواطن الفرد. الثائر إذن يقوم بالثورة ليس لمجرد الاستمتاع بانفعالات التمرد ضد سلطات عليا قهرته طويلا، بل لأنه يحلم بوصول مجتمعه لظروف طبيعية تتيح له العيش في حرية وكبرياء. كل تأخير في العودة إلى الظروف الطبيعية يدعم ما كان وليس ما يجب أن يكون، وكل ما يقربنا من الظروف الطبيعية يدعم الثورة ويحقق هدفها الأساسي، وهو الحرية. أو يحقق آخر شعار هتف به المتظاهرون في إحدى المدن السورية المنتفضة وهو: «الموت ولا المذلة». هزني هذا الشعار من الأعماق لصدقه الشديد وتواضعه. الموت بالفعل أفضل من حياة تمارس فيها الحكومات إذلال البشر.

غير أن أخطر ما يمر بالثائر من انفعالات هو عندما يقع في فخ الاستمتاع بها، ذلك الاستمتاع الناشئ أصلا عن مرحلة التمرد ضد السلطة الوالدية التي لا يمكن أن ينضج الإنسان بغير التمرد عليها، وهو ما يدفعه إلى العمل بغير وعي على إطالة خطوات الثورة أو معاركها بما يبعده كثيرا عن الهدف منها. عندما تختلف معي بشأن إجراء ما، عليك أن تثبت لي وللآخرين أن هذا الإجراء فيه ضياع للوقت وإبعاد للهدف، وفي الأحوال كلها عليك أن تحترس من الإحساس بالفشل عندما تعجز عن فرض رغباتك على الآخرين، ما نريده ليس دائما ما نحن في حاجة إليه، أقولها لكل الثوار: أنت لست راضيا عن تشكيلة الحكم الآن في مصر، وتريد مجلسا رئاسيا الأغلبية فيه للمدنيين، هل هذا ما تريده فعلا، أم هو ما أنت في حاجة إليه؟ ولماذا؟ ما مشكلتك حقا مع وجود مجلس عسكري قرر أن «يضطلع» بمسؤولية الحكم إلى أن يتمكن، في فترة حددها لك بنحو 6 شهور، من إعطائك مجلسا للشعب ورئيسا للجمهورية ثم العودة إلى مكانه الطبيعي لممارسة وظيفته الطبيعية؟ نعم.. ما مشكلتك في ذلك؟

لست أطلب منك الإجابة؛ فقد عرفتها بكل وضوح من أحد نجوم الدعوة التلفزيونيين، الذي سأله عمرو أديب: هل تريد من الجيش أن يمشي، أم يبقى؟

فكانت إجابته: يمشي سياسيا.. ويبقى أمنيا.

يا حلاوة.. ياللإجابة العبقرية التي دفعت عمرو للصياح إعجابا وطربا، هو لا يريد المؤسسة العسكرية كصاحب قرار سياسي، هو وجماعته سيتولون هذا الأمر، سيكونون هم الحكام، أما حكاية أن يبقى الجيش «أمنيا» فمعناه أن تعمل المؤسسة العسكرية «بودي غارد» عند سيادته، على المؤسسة العسكرية أن تحرسه وهو في طريقه إلى البلاتوه لتقديم برنامجه، وعليها أن تحرسه وتحميه في ميدان التحرير، ولا بأس بأن تحميه أيضا وهو يخطب في الناس محرضا إياهم ضد قواتهم المسلحة. التي أُرغمت - في ظروف تاريخية حرجة للغاية - على الخروج من ثكناتها للدفاع عن الجبهة الداخلية وعن الشبان المصريين.

غير أن إجابة الداعية الشهير تعطينا فكرة واضحة عن النتائج الخطرة التي يمكن أن نصل إليها عندما نخلط الدين بالسياسة، أو عندما نعمل في السياسة بخلفية دينية، دائما هناك إجابتان جامعتان مانعتان متناقضتان، قطعة من الجنة وأخرى من النار: «يمشوا.. بس يقعدوا». هناك دائما حقيبتان، واحدة امتلأت بالحرية والأخرى تفيض بالاستبداد.

غير أن الانسحاب قبل أداء المهمة التي أخذوها على عاتقهم ليس خيارا مطروحا على المؤسسة العسكرية، في غياب حياة مدنية يحكمها الدستور ومؤسسات مدنية قوية معينة ومنتخبة، تواجه المؤسسة العسكرية خطرا حقيقيا ليس مقبلا من خارج الحدود.

الدفاع عن الحياة الطبيعية في مصر لا يقل قداسة عن واجب الدفاع عن حدودها، لم يحدث من قبل أن كانت عند شعب ما هذه الأغاني كلها التي تتغزل في مصر وتفيض في حبها، غير أنها تظل حتى الآن مجرد أغانٍ. بالمعنى الشائع للكلمة كما تستعمل في الحياة اليومية، لقد كانت عملية الثورة ذاتها أشبه بالعملية الجراحية الناجحة النظيفة، تمت بسرعة وبأقل قدر من الألم، لكن يبدو أن مرحلة التمريض ليست على مستوى الجراحة، هذه هي مشكلتنا الدائمة، عندما تتكلم مع أي مخلوق من المستويات كلها سيقول لك على الفور: لا بد أن نعمل فورا.. لا يجب الانشغال بالسياسة إلى الدرجة التي تنسينا أننا نعيش وضعا صعبا للغاية.. لا بد أن نشجع السياحة فورا.. والتصدير و.. و.. و..

لكن ما يحدث على الأرض شيء آخر، يتم تعيين محافظ مسيحي لمحافظة قنا، فيرفضه الناس، أو بالتحديد جماعة منهم تسمي نفسها السلفيين، حتى الآن يبدو الأمر وكأنه أحد تطبيقات الديمقراطية والحرية، لكن غير المعقول هو أن يجلسوا على قضبان السكك الحديدية ليمنعوا القطارات من السير شمالا أو جنوبا. الشيء نفسه حدث في منتصف الدلتا، وبذلك نكتشف أن بعض المصريين لا يعترفون بوجود الدولة. شاهدناهم على الشاشة الصغيرة، جماعة من بسطاء الحال المتعصبين في حاجة لمن يذكرهم بقوة الدولة، غير أننا تعاملنا مع المشكلة بوصفها مشكلة دينية؛ لذلك أرسلنا لهم وفدا من الدعاة التلفزيونيين لإقناعهم أن قطع الطريق «حرام».. إنها مرحلة التمريض الشهيرة التي تنجح فيها العمليات الجراحية الكبرى وتتدهور بعدها حالة المريض لسوء الرعاية.

سيكون هناك دائما من يتعامل مع الحرية بوصفها الفوضى التي يحق له فيها تعطيل البشر من حوله، والعدوان على حقوقهم وحقوق الدولة، هؤلاء في حاجة للفهم عن طريق القوة، قوة الدولة.

في اللحظة التي تفرض فيها الدولة آلياتها على كل شبر من الأرض المصرية، تعود الحياة الطبيعية وتسطع شمس الحرية، ويحدث ما هو أهم، وهو أن يثق بنا العالم، تعود السياحة ويأتي الاستثمار من الخارج وينشط في الداخل.. أهم ما يميز الحياة الطبيعية هو أنها آمنة.