لبنان مختبر لحقيقة «التغيير» في سورية

TT

«عندما تصير الديكتاتورية حقيقة.. تصبح الثورة حقا»

(فيكتور هوغو)

الكلام الكثير عن وجود «تغيير» في سورية، وعن «ضرورة» إعطاء الحكم في دمشق فرصة لكي يثبت مدى جديته في الإصلاح السياسي، ثبت بالدليل القاطع يوم «الجمعة العظيمة» في مختلف أنحاء سورية أنه مفرط في التفاؤل.

غير أن المختبر الأوضح لحقيقة «التغيير» المأمول ليس إلا الساحة اللبنانية.

ففي لبنان لعبت دمشق بالتفاهم والتكافل والتضامن مع طهران، منذ نكستها في ربيع 2005، كما تشاء، وساعدها على ذلك عدة عوامل، أبرزها ما يلي:

أولا: التفوق العسكري والمالي والتنظيمي الكبير الذي بناه حزب الله في لبنان على امتداد سنوات طويلة من الرعاية الإيرانية والتسهيل السوري.

ثانيا: المباركة الإسرائيلية، واستطرادا الفرانكو – أميركية، لإبقاء لبنان من حيث هو «دولة فاشلة» في أحضان الحاضنة السورية. وهذا ما يفسره الانفتاح الهستيري الفرنسي على دمشق منذ خلف نيكولا ساركوزي سلفه جاك شيراك في قصر الإليزيه، وتبدل أولويات السياسة الخارجية الأميركية منذ دخل باراك أوباما إلى البيت الأبيض.

ثالثا: في ظل وجود تكتلين سياسيين متصارعين في لبنان لا يجمع بين مكونات كل منهما إلا العداء لمن هم في الجانب الآخر، كان لدى تكتل «8 آذار» أفضلية كبرى على غريمه «14 آذار». فـ«8 آذار» تكتل مرتبط عضويا بـ«محور طهران – دمشق».. وقراره في واقع الأمر قرار شبه مركزي. في حين أن «14 آذار» تحالف فضفاض لا قيادة مركزية له ولا إيحاء إقليمي ضاغط ومؤثر عليه.

رابعا: انطلاقا من الحكمة القائلة إن «القاصد دائما يغلب المقصود»، كان «محور طهران – دمشق» هو الفاعل والمخطط، بينما كان مناوئوه - حتى في عز اللحظة التاريخية التي بدا فيها أنهم كسبوا المعركة - في حالة «رد الفعل» لا أكثر ولا أقل. فالمبادرة كانت حقا، وعلى الدوام، في يد الجهة التي تدري تماما إلى أين تريد الاتجاه بلبنان.

خامسا: ارتكبت فصائل في «14 آذار» - ولا تزال ترتكب - أخطاء قاتلة سواء على الصعيد التنظيمي أو التكتيكي أو الإعلامي.

«حرب 2006» في لبنان كانت، بكلام سياسي بعيد عن العواطف والمثاليات، «السيناريو» المطلوب لـ«محور طهران – دمشق». فهي خلقت تعاطفا وطنيا غير مسبوق في الشارع اللبناني - أقله على المستوى الشعبي - مع جمهور حزب الله المعتدى عليه من جانب إسرائيل. وأتاحت لحزب الله تحقيق زيادة كبرى في شعبيته خارج حدود لبنان على امتداد العالم العربي غير الشيعي. وأخيرا وليس آخرا، جاء «القرار 1701» الصادر عن مجلس الأمن ليوفر لحزب الله منطقة عازلة مع إسرائيل، كان لا بد أن تؤدي إلى تحويله فائضه الضخم من السلاح إلى الساحة الداخلية اللبنانية.

وحقا، نجم عن تحويل هذا الفائض السلاحي، وتنامي الشبكات الأمنية المولجة بحمايته والمحافظة عليه، وتصاعد محاولات «الحزب» نسف المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وجرائم الاغتيال التي تلتها، التوتر الذي أدى إلى «حرب 7 مايو (أيار) 2008». ومن جديد، حقق «محور طهران – دمشق» في هذه الحرب انتصارا إضافيا تمثل في شق تكتل «14 آذار» وإخراج وليد جنبلاط، أحد أقطابه السابقين، منه. وتكرر هذا الانتصار سياسيا خلال فترة قصيرة في العاصمة القطرية الدوحة مع «اتفاق الدوحة»، الذي أعطى حزب الله وتوابعه فعليا – وكما برهنت الأيام لاحقا – أكثر من الثلث المعطل في الحكومة العتيدة.

وهكذا، بفعل فائض القوة العسكري لحزب الله، وما يمثله على المستوى الإقليمي، تغيرت المعادلة البرلمانية والحكومية، وانتقلت الأكثرية النيابية من مكان إلى مكان آخر، بعد انشقاق جنبلاط ثم رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي وحليفه محمد الصفدي - وكلهم فازوا في الانتخابات الأخيرة عام 2009 في قوائم مشتركة مع «14 آذار» - وانضمامهم، عمليا فيما بعد، إلى «8 آذار».

قبول ميقاتي تشكيل الحكومة، مما يعني احتلاله أعلى منصب سني في النظام السياسي اللبناني، بعد معركة «كسر عظم» ضد فريق سياسي يضم معظم النواب السنة ويحظى بدعم غالبية الشارع السني، كان مجازفة كبرى من رجل يشهد له حتى خصومه بالذكاء والوعي السياسي.

وكما هو متوقع من رجل بمستوى ميقاتي الذهني ووزنه المالي وعلاقاته الإقليمية والدولية، فإنه بدا خلال الأشهر التي تلت تكليفه، يوم 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، حريصا على ألا يكون «ألعوبة» في أيدي الأكثرية الجديدة بقيادة حزب الله. غير أن حسابات «الحزب» - التي هي حسابات طهران - تقوم على استراتيجية جرف كل العقبات الموجودة في طريقها. ولكن لكي لا يتهم «الحزب» بتأجيج الفتنة السنية -الشيعية بعد تنفيذه انقلابه الحاسم، فإنه اختار - جريا على عادته خلال الفترة الفائتة - العمل بصمت خلف ضوضاء ميشال عون و«تياره» البرتقالي، وتصريحات عون الاستفزازية وشروطه التعجيزية.

اليوم يصر عون، بدعم ضمني من حزب الله على الاستحواذ على حقيبة وزارة الداخلية، أخطر حقيبة وزارية في الحكومة اللبنانية. ولـ«الحزب» أكثر من هدف في هذا، في مقدمها: السيطرة على الأجهزة الأمنية بالكامل (قوى الأمن الداخلي وجهاز المعلومات فيه، بالذات، بعدما سيطر الحزب قبل ذلك على جهاز الأمن العام)، والتحكم في مسار الانتخابات النيابية المقبلة. ومن جهة أخرى، لدى عون شخصيا مصلحة انتقامية من القيادة الحالية لقوى الأمن الداخلي.. بعد اتهامها العميد فايز كرم، أحد أقرب المقربين من عون، بالتورط في التجسس لإسرائيل.

حتى الأسابيع القليلة الماضية بدت دمشق متهيبة فتح مواجهة أخرى مع الأغلبية السنية في لبنان بإجبارها ميقاتي على الشروع في تأليف الحكومة العتيدة.. أو الاعتذار. في حين لا تزال طهران، عبر حزب الله وتوابعه من المسيحيين والمسلمين، مصرة على السير نحو مواجهة حاسمة من دون اكتراث بعواقبها لبنانيا وإقليميا. وكان آخر الغيث، انكشاف تسارع عمليات البناء غير المشروع على الأملاك الحكومية في جنوب لبنان وبعض الضواحي الجنوبية لبيروت في ظل الاستخفاف المطلق بوجود الدولة الشرعية.

الأزمة اللبنانية المتفاقمة معيار مهم جدا لفهم اتجاه تفكير الحكم في دمشق. فهل يدرك هذا الحكم معنى مواصلة السير في مجازفة مدمرة لبنانيا وسوريا؟ أم أنه ترك كل أوراقه في لبنان وسورية أيضا.. لطهران؟