الفقه في زمن العولمة

TT

لعل أكثر النعوت التصاقا بالعصر الذي نعيش فيه، هو نعت: العولمة.فنحن متى اعتبرنا الثورة المعلوماتية التي نشهدها وهذا من جانب أول، ومتى نظرنا إلى التنقل السريع للسلع والبضائع بين مناطق العالم المختلفة، وهذا من جانب ثان، ثم متى اعتبرنا، من جانب ثالث حال أغلب دول المعمور أمام الشركات العملاقة وضعفها أمامها، فنحن نجد العولمة سمة غالبة ومميزة بالفعل لعصرنا. إن ما ذكرنا من الاعتبارات الثلاثة يتوافق مع مختلف محاولات تعريف العولمة وليس يبقى، بعد ذلك، سوى الأحاديث التمجيدية عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. أمام حال دول الجنوب عامة، ونحن بطبيعة الأمر بعض منها، فهو مما ينطبق عليه الوصف أفضل ما يكون الانطباق. نحن في عالمنا الإسلامي الفسيح، ووطننا العربي بدوله المتعددة بعض من هذا العالم، ندخل في عداد الغالبية العظمى من دول المعمور التي تعيش واقع العولمة منفعلة لا فاعلة، في حال من السلب وليس من الإيجاب. تتهددنا الأخطار لا في أمننا الاقتصادي وفي استقلالنا السياسي فحسب بل في نظمنا الروحية والقانونية والاجتماعية - وبالتالي في جردنا الاجتماعي والثقافي متى أخذنا الثقافة في معناها الشمولي. وحيث كان الفقه في الإسلام مناط التشريع لأفعال المكلفين في كل ما كان متصلا بأمور العبادات والمعاملات، وحيث إن هذه الأخيرة تتصل بأمور الوجود المادي (الاقتصادي، والسياسي، ثم الاجتماعي) وبالتالي تتعلق بأمور الدنيا (فالفقه، كما يقول الفقهاء، من علوم الدنيا) فإن سؤالا منطقيا، طبيعيا يتبادر إلى ذهن المسلم وهو: هل يملك الفقه الإسلامي أن يفعل شيئا في عالم سمته الأساس هي العولمة؟ ربما أمكن طرح السؤال بكيفية أخرى فيقال: هل يملك الفقه الإسلامي اليوم أن يشرع للمسلمين من ما كان من الأحكام الشرعية قمينا بالحفاظ على دينهم في الوقت الذي يمكنهم، على نحو إيجابي، من الانتساب الفعال إلى العصر الذي يحيون فيه ويأخذون منه بنصيب وافر؟

لست أنسب نفسي إلى الفقه، فذاك شرف لا أدعيه ولست أملك له من المؤهلات العلمية شيئا، ولست أنتمي إلى زمرة الفقهاء، فتلك رتبة أجلها غير أن مداركي تدق عنها، غير أني أنتمي، بحمد الله، إلى الإسلام دينا ومن ثم فإني أجيز لنفسي أن أعمل النظر بالمساءلة وكذا بالتنبيه إلى قضايا تتصل بحال الإسلام وواقع المسلمين في زمن العولمة. ربما كان السؤال الذي أصدر عنه اليوم متضمنا لسؤال آخر يخرج من جوفه فكان دالا عليه وهو: ما الأهداف الكبرى التي يلزم فقهاء الأمة وكذا نخبها أن تجعلها نصب أعينها متى كنا نريد لأهل الإسلام مكانا مشرفا في الأزمنة المعاصرة؟

أحسب أن أول الخطو في النظر في السؤال يكمن في تمثل القضية، وهي العولمة، واستيعاب المشكل، وهو مسؤولية الفقه في زمانها. أول الخطو، في عبارة أخرى، هو وعي العولمة ذاتها من حيث آليات عملها وأهدافها. ثم إنه الوعي، مع ذلك، بأن المسلمين لا يملكون تجاه العولمة أن يختاروا بين الكون وعدمه - فالخيار وهم وادّعاء، والشرع الإسلامي ينظر إلى الخلق بحسبانهم بشرا يضطربون في الحياة ويتقلبون في معارجها أطوارا. وهذا كله مع استحضار القاعدة الأصولية الذهبية التي تقول: حيث كانت المصلحة فثم شرع الله.

إذا تقرر ما تقدم خطوة أولى، ضرورية لا اختيارية، فإن الخطوة الثانية تكون، ضرورة أيضا، هي إعداد العلماء، علماء الشريعة الإسلامية، القادرين على الارتقاء بالاجتهاد إلى المرتبة التي يرتضيها «حكم الوقت»، كما يقول الفقهاء، تلك التي تستوجب الانفتاح على علوم ومدارك جديدة والأخذ من اللغات الأجنبية بنصيب وافر، مقدار يمكن من إجادة لغة أجنبية واحدة على الأقل، قراءة وكتابة وقدرة على الحوار. لنقل في لغة أكثر وضوحا ومباشرية إن إعداد علماء الإسلام يعني إعداد الصفوة العليا، لا بل صفوة الصفوة. نعم، إن الكلفة في ذلك عالية مرتفعة والطريق، لا شك في ذلك شاق، غير أنه لا مندوحة عن ذلك.

فأما الكلفة المرتفعة فهي مما ليس منه بد، غير أن النتيجة بالمقابل مرضية والفائدة أكيدة. وأما أنه شاق فهو لا شك كذلك، غير أنه ليس مستحيلا، هو شاق عسير لأن الشأن يتعلق بالذهنيات والعادات ونحن في معاهدنا الإسلامية وفي مراكز التكوين الكبرى ألفنا «الجمود على التقليد» كما يقول ابن خلدون، وبلغت الخشية منا من التغيير مبلغا بعيدا، وزاد الطين بلة أن المحافظين (وهم الكثرة الكاثرة) توسلوا في الحفاظ على حال الجمود بالتخويف من الوقوع في البدع حينا، والسقوط في شرك دعوات الكفر حينا آخر، والقول حينا ثالثا إن العلوم الشرعية من الكثرة والتفرع بحيث أن الزمان الواحد، في التكوين الشرعي الواجب لعلماء الشريعة، لا يتسع لسواها، إلا أن يكون ذلك على حساب علوم الشريعة.

أما الخطوة الثالثة فتستدعي بدورها جرأة في التفكير أو بالأحرى، جرأة على الخروج من المألوف المعتاد نحو الجديد غير المألوف في مجامعنا الكبرى وفي منتدياتنا الفقهية الكبرى. يلزم في ذلك الأخذ بعملين في الوقت الواحد. الأول هو الأخذ بالاجتهاد الجماعي (وهذا معنى المجامع الكبرى والمنتديات العليا، لا شك في ذلك) وما أقصد به هو التعود على استحضار علماء الأمة من المنتسبين إلى العلوم التي تقع، خارج دائرة العلوم الشرعية، غير أن الحياة العملية تقتضيها وتستدعيها، ولا بدع في ذلك ولا غرابة من حيث أن الفتوى الشرعية تستوجب، أحيانا غير قليلة، استجلاء رأي الخبراء من أطباء ومهندسين وعلماء اجتماع واقتصاد وعلم النفس وغير ذلك.

الحق أن الفقه الإسلامي يملك عمل الكثير في زمن العولمة. يملك ذلك متى قدر فقهاء الملة أنهم أمام وجوب ميلاد فقه جديد، تجديد شامل في الفقه به يكون التجديد في الدين، والتجديد في الدين واجب شرعا ومقرر بدلالة الحديث الصحيح. يملك الفقه الإسلامي عمل الكثير من أجل الشريعة وأهلها متى امتلكنا الجرأة في القول بوجوب إعادة النظر في إعداد العلماء، وتكوين الفقهاء، وفي برامج التدريس ومناهجه، وفي معاهد التكوين ومراكزه. هذه كلها، في اجتماعها، تدخل في دائرة الواجب - وعلماء أصول الفقه يقررون قاعدة ذهبية أخرى تقضي بأن ما لا يكون الواجب واجبا إلا به فواجب مثله.

إعادة النظر الشاملة هذه، في زمان كل ما فيه يستدعي الإصلاح في العمق ويستوجب المراجعة الكاملة، هي التوطئة الضرورية وهي الاستعداد المطلوب للإجابة عن سؤالنا الأصلي: ماذا يستطيع الفقه الإسلامي في زمان العولمة؟