هل هي ثورة.. وهل هو إعلام؟!

TT

في الملتقى الإعلامي العربي الثامن، الذي دعا إليه في الكويت الأسبوع الماضي، الأستاذ ماضي الخميس، كان مطلوبا مني أن أتحدث في إحدى جلساته، مع آخرين، عن التغطيات الإعلامية للثورات العربية التي اشتعلت ولا تزال تشتعل في عواصمنا هذه الأيام!

قبل الجلسة، بيوم، كان لي لقاء مع الدكتور خلدون النقيب، على مدى ساعة كاملة في منزله، وهو لقاء سوف يذاع مساء اليوم، على قناة «دريم» المصرية، وكنت قد سألت الرجل الذي شاءت تصاريف القدر أن ينتقل إلى رحاب الله، بعد اللقاء بيوم واحد، عن قراءته لمستقبل هذه الثورات، فإذا به يقول إن التعريف الأدق في تقديره، لما حدث في تونس، والقاهرة، ويحدث في صنعاء، وطرابلس الغرب، ودمشق، هو «انتفاضة» لا «ثورة».. وقد عدت أسأله، عما إذا كان هذا التعريف من جانبه، يمكن أن يغضب منه قطاعا عريضا من الشارع، في هذه العواصم، فكان رده أنه رجل دارس في الأساس، لأصول علم الاجتماع، ولا يشغله من قريب أو بعيد رضا أو غضب أحد، مما يقوله، لأنه يتحرى في كلامه وجه الله تعالى، ثم وجه الحقيقة، وكان رأيه، ولا يزال طبعا، أنها «انتفاضات» عربية، لا «ثورات» عربية، لأن الانتفاضة، في ظنه، لها تعريف محدد، هو الذي ينطبق بالضبط على الحاصل حاليا، وما حصل من قبل، في هذه العواصم كلها، في حين أن «الثورة» لها تعريف آخر، لدى الدارسين والمفكرين من أمثاله، وهو تعريف لا ينطبق لا على ما حصل، ولا على ما لا يزال يحصل!

وحين جلست على منصة الملتقى، كان هذا كله في ذهني، وكنت مشغولا، منذ البداية، وعلى طريقة سقراط قديما، بتعريف الأشياء قبل أن نتحدث عنها، حتى لا نتكلم أنا وأنت، في قضية واحدة، ونكتشف عند قليل من التأمل، أنك تتحدث عن شيء، بينما أتحدث أنا عن شيء مختلف، ونتخيل في الوقت نفسه أننا نتحدث عن شيء واحد!

ولذلك تساءلت هناك، منذ بداية الكلام، عن الإعلام الذي نقصده، بالضبط، حين نتكلم عن التغطيات الإعلامية للثورات العربية، فهناك إعلام مرئي، كما نعرف جميعا، وهناك إعلام مسموع، ومقروء، وإلكتروني.. فأي نوع منها نقصده، على وجه التحديد، عندما ننخرط في كلام عن تغطيات إعلامية لثوراتنا، أو - على حد تعبير الراحل الكبير خلدون النقيب - عن انتفاضاتنا!

وكان رأيي، ولا يزال، أنه قد يرد واحد ويقول، إن المقصود هو هذا الإعلام كله، بشتى أنواعه، ولكني أعتقد، في المقابل، أننا ربما دون وعي، نقصد الإعلام المرئي تحديدا، عندما نجلس لنتساءل عن هذه التغطيات، وحجمها، وطبيعتها.. فالإعلام المرئي، كان له نصيب الأسد في التعبير عن هذه الثورات، في القاهرة وتونس، ولا يزال في صنعاء، ودمشق، وطرابلس الليبية.

وربما لاحظت أنت، أنني عندما أشرت إلى دوره في القاهرة وتونس، قلت إنه «كان»، وعندما أشرت إلى الدور نفسه، في العواصم الثلاث الأخرى، قلت «لا يزال»، وهي تفرقة أقصدها، لأن الحاصل في ظني، أن هذا الإعلام لم يتعامل مع الثورات العربية، على أنها فعل مكتمل، في كل عاصمة، وإنما يتعامل معها بشكل مجتزئ، بمعنى أن الثورة - إذا ما تغاضينا مؤقتا عن تعريف أستاذنا الكبير الراحل - إنما هي دائرة مكتملة، لا ناقصة.. فعل مكتمل، لا نصف فعل!

الثورة، مرة أخرى، بداية وليست نهاية.. غير أن إعلامنا المرئي كان قد تعامل معها، في القاهرة وتونس، بشكل خاص، وفي الحالات الثلاث الأخرى، بشكل عام على أنها نهاية، لا بقية لها.. وإلا.. فأين «ما بعد الثورة» الآن، في مصر وتونس على شاشات الإعلام المرئي؟! سوف تفتش لتعثر بصعوبة على خبر هنا، أو هناك.. أما قبل سقوط النظامين الحاكمين في البلدين، فقد كان كل مواطن عربي فضلا عن العالم كله، ينام ويصحو على فعل الثورة، دون توقف.. فلما سقط النظام، في تونس أولا، ثم في مصر ثانيا، أو بمعنى أدق لما تنحى الرئيسان، بن علي ومبارك، انصرفت الشاشات نفسها، عن العاصمتين، والبلدين، وكأن شيئا لم يكن هناك.

لم تجرب شاشة من تلك الشاشات، أن تخصص وقتا كافيا لما بعد الثورة، في كل عاصمة منهما، مع أن ما بعد الثورة هو الأهم، لأن الثورة كما قلت هي مجرد بداية لمرحلة كاملة من إعادة البناء، فإذا كان هذا هو حال الإعلام المرئي، في التعامل معها، كثورات، وإذا كانت هذه هي مساحتها، على شاشاته، فمعنى هذا ببساطة أننا، كإعلام عربي مرئي واسع الانتشار، مشغولون بالأقل أهمية، لا الأهم!

وقد دللت على ذلك بمثال من تونس، رغم كثرة الأمثلة التي يمكن أن تسعفنا في هذا الاتجاه، وكان المثال عن المرأة الشرطية التي كانت قد ضربت الشاب «بوعزيزي» بما أدى إلى تداعيات قادت بدورها إلى الثورة هناك.

ففي وقت الثورة، وقبل تنحي بن علي في 14 يناير (كانون الثاني)، كانت صورة بوعزيزي حاضرة على كل شاشة، وكانت سيرته على كل لسان، وكانت حكايته قاسما مشتركا أعظم، في كل جلسة من جلساتنا العامة أو الخاصة، وكان.. وكان.. فإذا به، بعد الثورة، تنقطع أخباره تماما.. ليس هذا فقط، بل إن ثورته، وثورة رفاقه التونسيين، وثورة بلده، لم يعد لها وجود على شاشات الإعلام المرئي ذاته، لدرجة أن أحدا لا يكاد يعرف، ماذا يجري في تونس الآن، وإلى أي مستقبل تتجه، وماذا يدور على أرضها.. لا أحد يعرف إذا عقدنا مقارنة سريعة، بين الحضور الطاغي للحالة التونسية في الإعلام العربي المرئي، قبل 14 يناير، وغيابها الكامل، بعد هذا التاريخ.. ومع ذلك، فليس هذا هو موضوعنا، في هذه النقطة، لأن موضوعنا هو أن الشرطية إياها قد حصلت على براءة من القضاء التونسي، ونشر الإعلام المقروء الخبر في زاوية مخنوقة، داخلية، وعلى استحياء، مع أن الخبر مهم للغاية ومع أن معناه أن الشرطية التي كان الظن، منذ البداية، أنها كانت سببا غير مباشر في ثورة تونس، لم تكن كذلك، وعندما كشف القضاء التونسي عن حقيقة من هذا النوع، لم يشغلنا الموضوع، بمثل ما كان قد امتلك علينا كل حواسنا في بدايته!

فما معنى هذا كله؟! معناه أن إعلامنا المرئي الذي هو الأكثر وصولا إلى المواطن العربي، والأكثر نفاذا، والأكثر تأثيرا، يظل في حاجة إلى أن يتعامل مع الثورة في أي عاصمة عربية، حين تقع، على أنها مفهوم مكتمل، له بداية، وله نهاية، وبينهما مسيرة، عليه كإعلام أن يقطعها مع مشاهديه، خطوة خطوة، وإلا، كان مؤديا إلى تشويه وعي مشاهديه، وربما تزييفه، لا ترسيخه!

الثورة ليست مجرد انقلاب على وضع، وإنما هي بناء لوضع جديد مختلف، ومغاير، وإذا لم ينشأ مثل هذا الوضع المختلف، والمغاير، بحيث يشعر المواطن أن ما أصبح، إنما هو أفضل مما كان، فإن الثورة في حالة كهذه، لم تنجح.. ولم يعد لها مبرر من أصله!

وإذا كانت التغطية الإعلامية، على هذه الصورة، لا تروق للمشاهد لأسباب كثيرة، أهمها أن المشاهد يفضل الإثارة في التغطيات الإعلامية، عموما، فإن المطلوب من إعلامنا في حالة كهذه، أن يغيره، كمشاهد، لا أن يسايره، وأن يقدم له ما يجب أن يعرفه، وليس ما يحب أن يعرفه!