ساعات عصيبة

TT

ربما تساءل البعض عن غيابي وسكوتي حيال أحداث كل هذه الأيام العصيبة التي مر بها العالم العربي. الحقيقة هي أنني في تلك الأيام العصيبة كنت طريح الفراش في مستشفى سان جورج بلندن إثر نوبة قلبية مفاجئة. أنتظر دوري لإجراء عملية قلب خطيرة.

سألت الممرضة وقلت: هل تسمحون لي في الاستماع لكاسيت معي. نعم. تفضل. فوضعت السماعات في أذني وأدرت الكاسيت لأستمع إلى تلاوة من القرآن الكريم يتلوها ذلك المقرئ السعودي المفضل عندي، الشيخ علي عبد الله جابر. وفيما كنت أستمع لكل معجزات الله تعالى شعرت بأعصابي وعضلاتي تسترخي حتى أغمضت عيني وأتذكر: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب».

هيا بنا! صاحت الممرضة بي، لقد جاء دورك لغرفة العمليات. فكت السماعتين من أذني وراحت تدفع سريري مسرعة نحوها. وهناك وقف حولي ثلاثة جراحين من كبار جراحي القلب في بريطانيا وبيدهم سكاكينهم وخناجرهم ومناشيرهم، وحتى مطارقهم، ونزلوا بهذا الفقير إلى الله يمزقونني إربا إربا لأربع ساعات عصيبة، قبل أن يعودوا فيعيدوا تركيبي شلوا شلوا.

سمعت صوت رجل يقول: «رائع! كنت ناجحا في كل شيء».

«أيها تقصد؟».

تصورت أنه كان يشير إلى واحدة من مقالاتي. نسيت العملية كليا! استغرب الرجل من سؤالي. «العملية يا سيدي. العملية كانت ناجحة تماما».

«شكرا. بلغ تهانيّ للجراح المستر سميث على نجاحه هذا».

«والآن نأخذك لغرفة العناية المركزة».

«يعني هذا ضروري؟».

سمعت القوم يضحكون ثم عدت لأستأنف غيبوبتي.

ورن جرس التليفون في البيت، حيث كانت أم نائل قد تكأكأت بين ولديها في وجوم، عندما سمعت جرس التليفون. ترددت قليلا، ثم مدت يدها المرتجفة لترفع السماعة. «هلو! هنا مستشفى سان جورج! لقد أجرينا العملية لزوجك وتكللت بنجاح تام. يمكنكم زيارته بعد الساعة الثامنة».

بنفس اليد المرتجفة أعادت السماعة إلى مكانها. ثم رفعت رأسها نحو السماء وانفجرت في البكاء.

وكانت أمامها على طاولة القهوة الصغيرة رسالة في مظروف أخضر اللون، كتب عليه: «إليكم جميعا». تركته أم نائل أمامها ولم تحاول فضه. كان واضحا أنه ضم وصيتي للعائلة في حالة خروجي من غرفة العمليات، مجرد جثة ممزقة لا حياة فيها. وهو المظروف الذي سأحاول فضه بإذنه تعالى في مقالتي القادمة، «وصية أب لأولاده».