ماذا بعد مقتل بن لادن؟

TT

أميركا قتلت بن لادن لكنها تعرف والعالم كله يدرك أن الحرب على الإرهاب لم تنته. فالرجل على شهرته وأهميته لتنظيم القاعدة، لم يعد - منذ سنوات - يمثل قائدا حقيقيا لعمليات التنظيم أو في إدارته. لذا فإن الأثر العملي المباشر لمقتله سيكون محدودا، وإن كان الأثر المعنوي كبيرا. فـ«القاعدة» ذاتها لم تعد تنظيما هرميا متماسكا منذ غزو أفغانستان وطرد طالبان، والملاحقة الواسعة لقيادات التنظيم وخلاياه عبر العالم. فقد تفكك التنظيم بعد اعتقال عدد من قادته، وبسبب إضعاف وسائل الاتصال المباشر بين من بقي منهم مطاردا، لذلك نشأت تنظيمات عدة في مناطق مختلفة من العالم تنتسب للتنظيم اسما لكنها تعمل بشكل منفرد، وتقوم بعملياتها مستقلة عن التنظيم الراعي الذي أصبح دوره مثل شبكة إعلامية تقوم بالتحريض والتعليق على الأحداث.

من هنا فقد ترافق خطاب أوباما الذي أعلن فيه لأميركا والعالم مقتل بن لادن، مع تشديد الإجراءات الأمنية حول العالم تحسبا لعمليات انتقامية تقوم بها تنظيمات منتسبة لـ«القاعدة». فالحرب ضد الإرهاب ما تزال مستمرة، والأهم فيها هو تجفيف المنابع والموارد وهزيمة فكر «القاعدة»، ومعالجة الظروف التي شكلت بيئة ينمو فيها الإرهاب ومنها يتغذى.

لقد شاءت الأقدار أن يكون باراك حسين أوباما هو الرئيس الأميركي الذي يعلن قتل بن لادن، خصوصا أن الرجل واجه حملات غمز ولمز من اليمين المتطرف لجذوره الإسلامية. ويسجل لأوباما أنه ألغى استخدام مصطلح الإرهاب الإسلامي من الوثائق الرسمية، كما كان لافتا حرصه في خطابه الذي أعلن فيه مقتل زعيم تنظيم القاعدة على التأكيد مجددا على أن الولايات المتحدة ليست في حرب مع الإسلام مشيرا إلى أن بن لادن قتل أيضا أعدادا كبيرة من المسلمين.

هناك من يرى اليوم أن مقتل بن لادن قد يحرر السياسة الخارجية الأميركية من عقدة سيطرت عليها طويلا، وجعلت الحرب على الإرهاب هي المحرك لسياسة واشنطن والمؤثر الأكبر عليها منذ هجمات سبتمبر 2001. فالإدارات الأميركية لم تكن تستطيع التخلص من سيطرة ملف الإرهاب على سياساتها، بينما بن لادن ما يزال حرا طليقا، والرأي العام يتساءل عن الفشل في القبض عليه، في حين أن أنصار نظرية المؤامرة يثيرون الشكوك بأسئلة من نوع كيف تفشل أميركا بكل إمكاناتها التقنية والعسكرية في تحديد مكان المطلوب رقم واحد بعد أكثر من 10 أعوام من الملاحقة. أما وقد تمكن أوباما من تحقيق ما فشل فيه بوش وكلنتون، فقد تنصرف واشنطن الآن للتركيز على جوانب أخرى في سياساتها الخارجية. صحيح أن مقتل بن لادن لا يعني نهاية فورية لتنظيم القاعدة، أو انتصارا نهائيا على الإرهاب، وبالتالي فإن أميركا لن تدير ظهرها بالكامل للحرب على الإرهاب، لكنها ستتمكن على الأقل من طي ملف هجمات سبتمبر وليس ذكراها، كما قد تتمكن من تحرير سياستها الخارجية من قبضة الحرب على الإرهاب.

الهدف التالي لأميركا يجب أن يكون إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية من أجل سلام دائم في المنطقة، فالظلم الواقع على الفلسطينيين، والنظرة السائدة عن الولايات المتحدة باعتبارها راعية إسرائيل والمدافعة عن سياساتها، يشكلان «كعب آخيل» لسياستها في المنطقة ولكل جهودها الرامية لإصلاح صورتها في العالم الإسلامي. فكل استطلاعات الرأي العام التي أجريت على مدار السنوات الماضية كانت تؤكد أن الناس لا يكرهون أميركا، بل لديهم مشكلة مع سياساتها، وإذا سئلوا عن كنه هذه السياسات فإن غالبية الآراء تلتقي حول القضية الفلسطينية والموقف الأميركي من الحقوق العربية. صحيح أنه توجه انتقادات أخرى لجوانب مختلفة من سياسات أميركا، لكن القضية الفلسطينية تبقى هي المحور الأهم للانتقادات.

حركات التطرف أدركت هذا الأمر وسعت لاستغلاله في خطابها التحريضي والتعبوي، مع أن غالبية هذه الحركات لم تحارب ضد إسرائيل بل كانت تحارب ضد بلدانها وتسعى لهز استقرارها وضرب حكوماتها. وتنظيم القاعدة لم يكن استثناء في هذا المجال، فهو وإن تحدث في خطابه الإعلامي عن القضية الفلسطينية إلا أن سجل عملياته يوضح أنها وجهت إما إلى أهداف غربية حول العالم، أو وقعت في معظمها في دول عربية وإسلامية. من هنا فإن أميركا إن أرادت تحقيق عمل أهم في نتائجه من عملية قتل بن لادن، من حيث مواجهة الظروف التي تساهم في خلق بيئة يتغذى منها العنف والتطرف، وتستغلها حركات الإرهاب، فإن السلام العادل الذي يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، هو المفتاح. أما إذا بقي موقفها على حاله، وظل ملف الصراع العربي - الإسرائيلي مفتوحا، فإن عليها وعلينا أن نتوقع ظهور آخرين على غرار بن لادن.

قد يجادل البعض بأن الصراع العربي - الإسرائيلي ليس وحده المسؤول عن إفراز البيئة التي ينمو فيها الإرهاب، وأن هناك قضايا أخرى مثل ملفات الفساد والاستبداد وغياب الحريات بل حتى المناهج التعليمية، تسهم في تغذية هذه البيئة. هذا صحيح، وليس هناك من عاقل سينفي وجود مثل هذه العوامل، والعديد من حكومات المنطقة رفعت منذ سنوات شعار الإصلاح وبدأت تعيد النظر في مناهج التعليم وتحارب فكر «القاعدة» وحركات التطرف. والمنطقة العربية تشهد اليوم تغييرات كبيرة، والثورات والانتفاضات فيها دليل على أن الناس يريدون مستقبلا أفضل يتمتعون فيه بالكرامة والحقوق، واختاروا طريقا لتحقيق تطلعاتهم يعكس رفضهم لأساليب حركات العنف والدمار والإرهاب. لكن رغم هذه الروح الجديدة التي تسود المنطقة، فإن القضية الفلسطينية إذا بقيت بلا حل عادل، فإن المنطقة لن تعرف سلاما أو استقرارا، وبالتالي يصبح من غير الممكن هزيمة الإرهاب والتطرف حتى لو ربحنا بعض المعارك.