«زواج القرن» مرة أخرى

TT

سوف أكون حصيفا هذه المرة حينما يتكرر أمامي، لعشرات المرات، تعبير «زواج القرن»، لكي يصف زواج الأمير ويليام - دوق كمبريدج - الرجل الثاني المنتظر على عرش المملكة المتحدة، على كاثرين إليزابيث ميدلتون، الشهيرة باسم كيت، التي أصبحت أشهر شخصية نسائية على أغلفة المجلات والصفحات الأولى للصحف العالمية.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها تعبير «زواج القرن»؛ فقد سمعته لأول مرة في 29 يوليو (تموز) 1981 عندما تزوج والد العريس، الأمير تشارلز، أمير ويلز وولي عهد المملكة، الأميرة ديانا سبنسر. كنت في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وأذكر أنني شاهدت مراسم الزواج «التاريخية» طالما كان ذلك «زواج القرن» - العشرين آنذاك - على محطة «ABC» التلفزيونية التي قدمت للعرض بموسيقى فيلم «كاميلوت»، استشهادا بالقصة الشهيرة للملك آرثر الذي خلق مملكة يسودها العدل، والتي تحميها «المائدة المستديرة» التي يجلس حولها فرسان بلا قائد ولا زعيم ولا ملك، والذي كان غارقا هو الآخر في قصة حب تاريخية للملكة جنيفر.

كان كل ما في العرض تاريخيا بمعنى الكلمة، وربما كانت هي المرة الأولى التي بلغ فيها عدد المشاهدين للزواج على التلفزيون 750 مليون نسمة، على الرغم من أن أحوال الأقمار الصناعية لم تكن من التقدم على ما هي عليه الآن. وعندما مشي العروسان على سجاد كاتدرائية سانت بول، بدا كأن قلب العالم قد توقف من جمال اللحظة، والدقة الإنجليزية في أبهى صورها، وببساطة كان المسار كله يعبر عن حالة تاريخية لا تتكرر مرة أخرى.

ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى بدا أن «زواج القرن» لم يكن على ما بدا عليه من عذرية وعفة وجلال. وبعد أربع سنوات من الزواج بدأت تتسرب علامات الضجر بين الزوجين، وما إن انقضى عقد حتى فاحت رائحة خيانة الأمير والأميرة لبعضهما البعض. الأمير كانت له عشيقة واحدة، هي السيدة كاميليا باركر، التي كانت متزوجة آنذاك من شخص آخر؛ أما الأميرة فقد كانت لها قائمة طويلة من العشاق تعددت جنسياتهم ما بين الإنجليزي والباكستاني وأخيرا المصري دودي الفايد، الذي لقيت ديانا حتفها بينما كانت في صحبته في باريس. والحقيقة أن قصص الطرفين كانت حريفة للغاية، وتسربت من خلال صور، ومذكرات، وأشرطة تسجيل، دارت أحداثها عبر قارات العالم. ونسي الإعلام قصة «زواج القرن» التي ذاعت في مثالية مذهلة حول قصة حب جاءت من قلب الأساطير، وحلت محلها قصص خداع من أنواع متعددة، وفي داخلها كانت الغيرة، والانتقام.

الغريب في الأمر كله أن أخبار تشارلز وديانا، حرصت كل أجهزة الإعلام على أن تنقلها بسرعة وإثارة وشغف. كان تشارلز هو المثقف الذي عرف الدين الإسلامي، وهو الذي كان على استعداد للتعرف والتواؤم مع حضارات وثقافات أخرى، بل إن قصته كلها مع كاميليا باركر كانت قصة السيدة عالية الفكر التي تفهم رجلا وصل إلى آفاق عالية من المعرفة. أما ديانا سبنسر فقد ذهبت ناحية أخرى لكي تكون «أميرة القلوب»، وهو لقب حصلت عليه حية وميتة، بعد أن ذهبت في أفعال الخير مذهبا كبيرا وكان منها تلك اللحظات الإنسانية للدفاع عن ضحايا الحروب، خاصة هؤلاء الذين كانوا ضحية الألغام التي كثرت في حروب العالم. وببساطة كان مشهدها جديرا بكل صورة السيدة الجميلة، شقية العينين، لامعة الابتسامة، وهي تقف إلى جوار طفل أو شيخ أو امرأة ضاعت أطرافها أو ذهبت عيونها خلال صراعات عابثة.

وهكذا تصدر تشارلز وديانا أغلفة الصحف، وباتا قصة إنسانية مثيرة فيها من الخطايا والمعاصي ما يسد شبق كتاب القصص لكل ما هو مثير من مفاسد الإنسان. لكنهما، في الوقت نفسه، بالإضافة إلى نبل الأصول والجذور وجمال المحيا، كانت لهما معا قصتهما الخاصة في خدمة الإنسانية. وعندما انتهت حياة ديانا في مصرع رهيب، وأيا ما كانت الحكايات والخيالات حول ما جرى، فإنها كانت في الممات حية بكل ما كان منها نبلا ومعصية.

«زواج القرن» الحالي هو زواج القرن الجديد للقرن الحادي والعشرين هذه المرة، وصارت فيه الطقوس كما جرت تماما في زواج القرن العشرين، كما بدأت في المركبة الملكية، وكما سارت في الكاتدرائية، وكما وقفت الجماهير أمام قصر بكنغهام تهتف للمعشوق والمعشوقة معا، وفيهما الجد والبراءة، وبداية قصة وعصر. ولم تكن هناك صدفة أن الإعلام والصور راحت تكرر القصة بحذافيرها، وربما كانت التفاصيل أكثر هذه المرة؛ فعندما تزوج تشارلز وديانا في زواج القرن السابق لم تكن «الإنترنت» لها وجود بعد، ولا كانت الشاشات قد عرفت دقائق الكريستال ولمعات البلازما وغيرها من شاشات التلفزيون البراقة. ومن المؤكد أن من شاهدوا الحدث السعيد فاق عددهم المليار هذه المرة، ولن ينافس ويليام وكيت أيا من نهائيات كأس العالم أو انتخاب رئيس أميركي جديد في عدد المشاهدين الحالمين أيضا.

فالقصة من أولها إلى آخرها هي أن العالم من وقت لآخر يحتاج إلى حلم، وقصة خرافية يتمناها الناس لأنفسهم في رومانسيتها، لكنهم يعلمون أيضا أن اليقظة سرعان ما تأتي إما بلا شيء يقرب من الحقيقة وإما أن المسألة كلها تصير في النهاية كابوسا مخيفا. أليس ذلك ما جرى من قبل لديانا وهي تخرج في ذلك المشهد المرعب الذي حطم العربة داخل النفق حتى لم يعد أحد يعرف ما إذا كانت حادثة أو عملا من أعمال المخابرات؟

القصة دُفنت على أي حال، ولم تبق منها إلا مواكب للزهور التي توضع على قبرها بكرم زائد، وربما كانت ديانا قبل ذهابها إلى حيث لا يعود أحد تريد أن تكون قريبة من ولدها ساعة الزواج. لكن أباه كان حاضرا ومعه كاميليا، وربما كان كلاهما - الأب والابن - يفكر فيمن سوف يكون له حق عرش المملكة بعد أن ظلت الملكة إليزابيث على حيويتها وهي تلوح للجماهير.

القصة الجديدة بالتأكيد فيها ما يبهج، وما جعل الناس تشارك في «زواج القرن»، لكن عليها ألا تبتهج كثيرا؛ فالعبرة باقية من قصة أخرى ليست بعيدة، كانت هي الأخرى زواج قرن آخر. ومع الزمن سوف تتفتح الأحداث، ليس بالضرورة كما جرت من قبل؛ فالتاريخ لا يتكرر بالضرورة، كما أن المادة لا تفنى أو تخلق من عدم. لكن الزمن قادر دائما على المفاجأة، والإتيان بما ليس في الحسبان، ومن أحداثه تلف العجلة، وقد يتعجب الإنسان أو لا يتعجب، لكنه في النهاية يبقى في انتظار حدث آخر يحلم برومانسيته حتى وهو يعلم تماما أنه قد يكون دمويا تماما.