وصية والد لأولاده

TT

عندما أوشكت على الخروج من البيت إلى المستشفى لإجراء عملية القلب الخطيرة، لم أكن في الواقع أتوقع العودة للبيت حيا. طافت في ذهني شتى الأفكار السوداوية. منها ما الذي سيفعلونه بجسمي؟ الدفن هنا مكلف ولا يصح لي أن ألقي بعبئه على أولادي. أستطيع طبعا كعراقي أن أطالب حكومة المالكي بتولي مسؤولية دفني. خطر لي في النهاية أن أتبع ما فعله صديقي شيمعون صبار. أوصي بجثتي للمستشفى لأغراض البحث العلمي. ولكنني تساءلت ما الذي سيتعلمونه من جثة هذا الرجل العربي المسلم؟ فإذا فتحوا رأسي فلن يجدوا فيه غير خلايا أفكار فاسدة. وإذا فتحوا بطني فستهب جراثيم الأمراض الاستوائية في وجوههم. وإذا فتحوا صدري فسيجدون قلبا مثخنا بالجروح.

صرفت فكري عن الموضوع، ففكرت في كتابة وصية من نوع آخر لأولادي. كتبتها ووضعتها في مظروف أخضر كتبت عليه «إليكم جميعا». وضعته على مكتبي ليقرأوه بعد موتي. ولكنني لم أمت كما لا بد أن حضرة القارئ قد لاحظ. كنت أتوقع، وقد بقيت حيا، أن يقرأوها ويضحكوا عليها، ولكن ما حصل كان العكس. قرأوها ثم بكوا:

يا أولادي..

أنا أعرف أنني قد حمّلت قلبي ما فوق طاقته من عذاب وشجون الحب التي تدفقت إليه ومنه، وفي أولها حبي للإنسان وأنثى الإنسان. ولكنني لم أتصور أن هذا القلب سيكون في الأخير قاتلي. قال لي الدكتور إن كثرة الأدوية التي تناولتها تسببت في سد الشرايين. قلت له، كلا يا سيدي. بل هو الحب الذي زحمها عبر السنين ودمرها.

لدينا في تراثنا العربي حكاية فولكلورية عن شيخ أدركه الموت مثلي. دعا أولاده وطلب منهم كومة من الحطب. أخذها وشدها في حزمة، وقال اكسروها. تناولوها وعجزوا عن كسرها. استعادها منهم وفكها وأعطاهم عيدانها متفرقة فكسروها بسهولة. قال كذا البشر. عندما يقفون متحدين متآزرين لا أحد يستطيع كسرهم. ولكنهم عندما يتفرقون ويتنازعون يسهل كسرهم.

يا أولادي قفوا هكذا دائما سوية ولا تتفرقوا كما كنا في هذه الأسرة. من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته. وتذكروا شعار عائلتنا القشطيني. نتخاصم ونتشاتم ولكننا نقف سوية عندما تلم بنا النوائب.

استغربت أمكم من هدوئي في طريقي للعملية. كان هذا طبيعيا مني. لقد أنجزت رسالتي معكم ولم يبق ما ينبغي لي فعله. لقد سهرت على تعليمكم وتثقيفكم والوصول بكم إلى حالتكم المشرفة الآن. ولكن يا للأسف! يا ليتني أستطيع أن أقول نفس الشيء بالنسبة لأمتي العربية والمجتمع الإنساني عموما.

ما أمتع تلك السنين الطويلة التي قضيتها معكم. شكرا لكم. لم تلقوني بأي مشكلة وأنجزتم كل ما تمنيته لكم. وفي أول ذلك حرصكم على استخدام كل ما تعلمتموه في مساعدة الضعفاء والمقعدين وكل المعذبين على الأرض. ما زلت أتذكركم تمسكون بأياديكم الصغيرة على آلاتكم الموسيقية تعزفون لي ما كتبه باخ وموزارت من ألحان. سأحمل ذكريات تلك الأنغام حيثما سيأخذني الله تعالى. فشكرا لكم.