مصر.. أمة في خطر!

TT

الفتنة الطائفية وغيرها في مصر جعلت الأمة في خطر كما قال وزير العدل وتجعلنا نخاف أكثر على بقية المجتمعات العربية فهي لا تملك تاريخ مصر

* «مصر أمة في خطر!» تلك كانت هي العبارة المخيفة التي علق بها وزير العدل المصري، المستشار عبد العزيز الجندي، على الصدامات الدامية بين المسيحيين والمسلمين في حي «إمبابة» الشهير.

توتر ساخن بين مسلمين متعصبين وأقباط في حالة ذعر، على خلفية قضية الفتاة القبطية «عبير» التي يرى المتعصبون أنها أسلمت لكن الكنيسة تحتجزها، وأنهم هبوا لتخليصها، حرقت الكنائس هناك وتبودلت النيران ومات نحو 12 شخصا وجرح العشرات.

قبل عبير كانت - وما زالت - قضية «كاميليا» ووفاء.. إلخ، وقضية «أطفيح» وأحداث محافظ قنا، وقبل ذلك تفجير كنيسة القديسين في مدينة الإسكندرية، كان هذا قبيل إسقاط نظام مبارك بقليل.

بعيد سقوط النظام توالى الكلام من قبل المنتصرين الجدد عن أن النظام «البائد» هو من دبر وفبرك تفجير كنيسة الإسكندرية، وأنه لا توجد أزمة حقيقية طائفية بين المسلمين والأقباط بسبب تنامي التعصب الديني، لكن ماذا عما يجري الآن بعد سقوط نظام مبارك وحبس الرجل في مستشفى بسبب شيخوخته، وأولاده يرتدون قميص السجن في «طرة» ومعهم كل أركان نظام مبارك؟

ما زال هناك من يريد نسبة كل الشرور التي تجري في المجتمع المصري الآن، وبعد سجن رجال النظام وعلى رأسهم كبيرهم مبارك، وعلى رأسها الفتنة الكبرى بين المسلمين والمسيحيين، إلى النظام السابق، حتى ولو كان النظام هذا نفسه أصبح «مبهدلا» وحالته بالويل، في السجون والمنافي.

شاهدت مواطنا قبطيا يصرخ على شاشة قناة «العربية» بعد أحداث إمبابة الأخيرة، بأنه يوشك أن يتبرأ من ثورة 25 يناير (كانون الثاني) هذه، وأنه صار يكره هذا التاريخ بسبب الخوف الذي يعتريه من «انفلات» هؤلاء المتعصبين «السلفيين» كما وصفهم على حرمات الأقباط والتضييق عليهم، وأنه يتمنى عودة مبارك حتى ولو كان مبارك فاسدا و«حرامي» بسبب أنه على الأقل كان يوفر لهم الأمان.

بسبب مثل هذه التعليقات تحديدا ينطلق أصحاب نظرية «فلول» النظام السابق في قولهم إن رموز النظام أنفسهم هم من يحركون هذه الأحداث حتى «يكرهوا» الناس في الثورة، وهذا يجعلهم يحنون إلى حضنهم الدافئ!

لا دليل على صحة هذا الكلام، إلا الهواجس، كما أنه لا يوجد برهان حاسم لمن ينفي كون البعض من النظام السابق قد تورط في إلهاء الناس بأحداث من هذا النوع، ربما.. فكل شيء جائز، ولكن ما هو أكيد وغير قابل للشك أن هناك أزمة حقيقية في مفهوم المواطنة وتأسيس روح الأمة على أساس غير مذهبي أو فئوي وطائفي، وهذا الداء إذا كان وصل لمصر، التي هي أقدم دولة في المنطقة، منذ أيام الفراعنة، كما نقرأ دوما، فمن باب أولى أن ينطبق على غيرها، وهذا التصور لرسوخ الدولة «المصرية» منذ أيام (مينا) موحد القطرين، ليس حكرا على أرباب الوطنية المصرية من التيارات المدنية، بل يتغنى به، مؤخرا، حتى رموز إسلامية، وها هو عبد المنعم أبو الفتوح، الوجه الإخواني المعروف، يقول في حوار له أجراه مع مجلة «الوطن العربي» في عددها الأخير: «لا توجد دولة حقيقية في الوطن العربي إلا مصر، بعد العراق التي دمرت، وباقي الدول بالنسبة لمصر مثل العزب والنجوع»!

هذا التاريخ والتغني ليس عاصما من الأخطار التي قد تفتك بهذا النسيج، وكما قال الباحث المصري عماد جاد، على شاشة «العربية» إنه لا حل إلا بتطبيق القانون على الجميع دون هوادة، وإنه قد جرى «تديين» الفضاء العام المصري منذ أيام السادات، وإنه كان دائما يتم التعامل مع المسألة المسيحية بطريقة غير قانونية بل بطريقة أمنية تقوم على إيكال إدارة هذا الملف إلى أجهزة الأمن التي غالبا ما تفضل حل الإشكالات بطريقة الأعراف والصلح وبعيدا عن القانون، وإنه باستثناء حادثة واحدة، لم يتم التعامل بطريقة قانونية بحتة في قضايا التوتر الطائفي.

الأقباط دائما هم «الترمومتر» الحقيقي لاستقرار الحياة السياسية في مصر ومتانة السلم الأهلي، منذ هبوب رياح التغيير على الشرق الأوسط في مطلع القرن الماضي، ولذلك كانت مسألة الوحدة الوطنية بين الهلال والصليب حاضرة بقوة في أدبيات ثورة 1919، ورأينا كيف ركز الفن المصري منذ البدايات على ترسيخ معاني الأخوة الوطنية، كدليل على خوفه عليها أصلا! وآخر ذلك كان فيلم عادل إمام وعمر الشريف «حسن ومرقص».

ولما اشتدت معارضة الإخوان المسلمين لنظام مبارك في السنتين الأخيرتين، خصوصا بعد حملات حماس وإيران وحزب الله عليه، اصطفت الكنيسة القبطية بقيادة الأنبا شنودة إلى جانب «النظام» والدولة ممثلة في رئيسها حسني مبارك، فكان ذلك، فيما يبدو، من أسباب التوتر بين الجماعة والكنيسة، وكلنا يتذكر التصريحات الشهيرة في برنامج «بلا حدود» في قناة «الجزيرة»، لمحمد سليم العوا، أحد أبرز وجوه الإسلام السياسي في مصر، والتي هاجم فيها الكنيسة القبطية، ونبه إلى أن: «الكنيسة تحولت إلى إمبراطورية موازية للجمهورية المصرية ولا يستطيع أحد التدخل فيما تفعله، مستدلا بتصريحات الأنبا بيشوي التي أكد فيها على أن ما يحدث داخل الكنيسة لا يحق لأحد التدخل فيه».

وأعرب العوا عن: «أسفه لتورط بعض أبناء الكنيسة في جلب السلاح من إسرائيل بموجب ما ضبطته أجهزة الأمن لتخزينها في الكنائس، لمحاربة أبناء وطنه من المسلمين». حسب تلخيص موقع «محيط» للحلقة التي بثت في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي.

موقف بابا الأقباط الداعم للدولة والنظام موقف مفهوم ضمن حسابات الأقليات الحساسة في الاحتماء بالدولة ومناصرة الاستقرار العام. وليس هو موقف خاص بحسني مبارك لشخصه. كما أخبرني مثقف مصري قبطي سأل رجال الكنيسة القبطية نفسها.

تغيرت الأمور الآن، وأصبح السلفيون، وليس الإخوان أو رموز الإسلاميين المسيسين، هم من يتلقون سهام النقد، ويشكو الأقباط، وغير الأقباط، منهم، بسبب تزمتهم ونشرهم للتعصب القبيح. وهذا صحيح، فنحن نرى حاليا أن الشبان أصحاب اللحى الكثة و«الجلابيات» أو البناطيل، المشمرة، هم من يتصدر مشهد التأزيم الديني والاجتماعي، وليس ذلك خاصا بملف الأقباط، بل رأينا معركة السلفيين في مسجد النور بالعباسية، بقيادة الشيخ حافظ سلامة، حيث انتزعوا المسجد بالقوة من ولاية وزارة الأوقاف، ولم تفلح في مواجهتهم، وقاموا فيه بما يحلو لهم حتى إقامة صلاة الغائب على أسامة بن لادن!

تذكروا أن الشيخ حافظ سلامة كان يرى باعتباره الثائر الأكبر و«شيخ المجاهدين» والمقاومين في السويس، في بداية الانتفاضة المصرية، ولم يتوقف أحد، ولم يرد، عند المحتوى الفكري للشيخ سلامة وأمثاله.. فلا صوت يعلو فوق صوت الثورة!

كل هذه المشاهد المحزنة التي تجعل «الأمة المصرية في خطر» كما قال وزير العدل المصري، تجعلنا نخاف أكثر وأكثر على بقية المجتمعات العربية التي لا تملك تاريخ مصر ولا قدم رسوخ تقاليد الحكم والدولة والتناسق الاجتماعي فيها.

وتجعلنا أيضا، أو يفترض بنا هذا، نفكر كثيرا في كيفية اجتراح نموذج انتقال وعبور آمن إلى الدولة المدنية دون أن يفتك بنا التشتت الديني والاجتماعي والصراع المادي البحت، بعبارة أخرى كيف نحصن أنفسنا من التلاشي في بحر الفوضى؟

سابقا طرحت هذه الهواجس في مصر نفسها، ومن ذلك جدل جمال الدين الأفغاني (توفي 1897) مع الخديو إسماعيل ثم الخديو توفيق حول الحكم الدستوري البرلماني في مصر وأجوبة الحكام له بأن الشعب غير جاهز لذلك، ورفض الأفغاني لهذه الحجج وتحريضه للنخبة المصرية على الثورة، ثم الثورة فعلا على يد عرابي 1881، بعد نفي الأفغاني من مصر بسنتين 1879، ثم تراجع الشيخ محمد عبده، أحد أهم نجوم هذه الثورة، عن موقفه الصريح في مساندة العمل الثوري السياسي ليعود إلى مربع الإصلاح الفكري والتربوي، فهو الأعمق والأبقى في نظره، وكلنا نعرف عبارته الشهيرة: لعن الله ساس ويسوس!

كان هذا في فجر النهضة الأولى، ولكن ها نحن عند نفس الموقف فيما يقال لنا إنه فجر النهضة أيضا..

كيف الخلاص إذن من الشلل الزمني والفكري..

[email protected]