في انتظار النموذج السعودي

TT

منذ الغزو الغربي للعالم الإسلامي وسقوط الخلافة العثمانية - التي كانت تمثل للمسلمين المظلة السياسية لحقبة طويلة من الزمن - ومن ثم تقسيمها وتوزيعها إلى دويلات وممالك وإمارات متفرقة، ضمن اتفاقيات وصفقات استعمارية، مر المسلمون بأزمات نفسية وحضارية شديدة وانتابتهم حالة من فقدان الوعي بالهوية والانتماء والشعور الشديد بالاغتراب والضياع والتخبط السياسي، استمرت «معهم» لحد الآن، رغم أنهم حاولوا بشتى الطرق التغلب على هذه الأزمات ولملمة هويتهم المبعثرة من خلال تشكيل أحزاب وتنظيم حركات سياسية «معاصرة»، ولكنهم فشلوا وظلوا يراوحون في مكانهم، وقد جربوا كل المناهج الفكرية والفلسفية الغربية، وتتبعوا أنظمتهم السياسية وطبقوها، ولكن بعد أن حوروها وعدلوها لتتواءم مع خلفياتهم الثقافية التي يغلب عليها الطابع القبلي بشكل عام.. لفترة شغلوا الناس بتطبيق المناهج الاشتراكية ونشر مبادئها، ليس بهدف ترسيخ العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بشكل متساو بين أفراد المجتمع، كما دعا إليها منظروها الغربيون، بل لاستعمالها كأداة سياسية «ثورية» للتحكم في رقاب الناس، كـ«الاشتراكية البعثية» و«الاشتراكية الليبية الشعبية العظمى» و«الاتحاد الاشتراكي» السيئ الصيت في مصر، ولكن ما إن تهاوى المعسكر الاشتراكي أمام ضربات الرأسمالية الغربية، حتى تساقطوا وبدأوا بالتوجه نحو الديمقراطية بنفس الأسلوب المراوغ، وعملوا فيها التحريف والتحوير لتتناغم مع مقاساتهم العقدية والفكرية والسياسية، فظهرت في الساحة أنواع كثيرة من الـ«ديمقراطيات»، منها ما ارتبطت بأمة، ومنها ما تعلقت بفكرة أو بحزب، فالقوميون بادروا بصياغة ديمقراطية تنسجم مع توجهاتهم ومصالحهم القومية، والإسلاميون ساروا على نفس خطى القوميين وعملوا لأنفسهم ديمقراطية خاصة بهم.. أدت هذه المحاولات التوفيقية «الترقيعية»، إلى ازدياد الهوة بين المسلمين والعالم المتقدم، فسار العالمان في اتجاهين متعاكسين، اتجاه يتطور باستمرار ويتعامل مع المعطيات الموجودة بواقعية ومنطق سليم، واتجاه يحاول باستمرار اللحاق بالغرب من خلال دمج الحاضر بالماضي «المشرف» واستحضار جوانبه المشرقة لمواجهة تحديات العصر الحالي..

وفي خضم هذا التخبط الفكري، ظهرت طروحات فكرية وسياسية لمعالجة الأزمة الحضارية «الإنسانية» التي تعاني منها الأمم الإسلامية، وتمثلت هذه الطروحات في نموذجين بارزين ظهرا في الساحة وهما؛ النموذج الإيراني والنموذج التركي.. الأول اعتمد على النهج «الثوري» في الانتشار والتوسع، واستمد قوته من الدعم المتبادل مع بعض الحركات المسلحة والمجاميع «الإرهابية» وبشكل خاص الحركات الشيعية «المتطرفة» المنتشرة في لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها من البلدان الإسلامية، وقد نجح إلى حد كبير في إشغال الناس بأفكاره الراديكالية الداعية إلى مقاومة القوى الاستعمارية والصهيونية العالمية في المنطقة مستغلا خلو الساحة العربية من أي مقاومة تذكر، ونما هذا النموذج في ظل الثورة التي اندلعت في إيران عام 1979، ولكن ما يحول دون نجاح هذا المشروع السياسي/ الثقافي التوسعي أنه يتحرك ضمن إطار محدود وفي نطاق ضيق جدا، يهتم بشكل أساسي بقضايا طائفة معينة وهي الطائفة الشيعية التي تمثل أقلية ضئيلة لا تتجاوز 8 في المائة من نسبة المسلمين في العالم، وإن ادعت غير ذلك.. بالإضافة إلى أن الناس بطبعهم ينفرون من فكرة تدعو دون انقطاع إلى المقاومة والصمود والتصدي وعسكرة المجتمعات.

أما عن النموذج التركي الذي برز بقوة بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002 والذي قدم نفسه كوريث شرعي لأمجاد العثمانيين وممثلا للمسلمين السنة بعد أن لفظه الاتحاد الأوروبي في الانضمام إليه، فإن المسلمين - والعرب منهم على وجه الخصوص - ما زالوا يحتفظون بذكريات مريرة عن الممارسات القمعية التي كان يرتكبها «الجندرمة» الأتراك ضدهم، لذلك من الصعب أن تحتضن الشعوب الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص هذا النموذج المؤلم، ولأنهم يعرفون تماما أن محاولة تركيا للظهور بمظهر الحريص على قضايا المسلمين ما هي إلا ورقة ضغط سياسية تشهرها بوجه الأوروبيين لقبولها في النادي الأوروبي.

قبل إخفاق النموذجين التركي والإيراني في استقطاب الناس حولهما، برز النموذج السعودي في الساحة كقوة سياسية وفكرية يمكن أن يعول عليها في قيادة الأمة الإسلامية في الشرق الأوسط، وكان للموقف الحازم الذي اتخذته القيادة السعودية في التصدي لمشاريع إيران التوسعية في منطقة «الخليج» وخوضها للتجربتين «الحوثية» في اليمن والمعارضة «الشيعية» في البحرين أثر بالغ في بلورة وظهور هذا النموذج في الساحة بقوة، ولكن ما يؤخذ عليه أنه محصور في منطقة الخليج، ولكن من الممكن أن يتوسع وينتقل إلى العالم الإسلامي إذا ما اهتم بقضاياه بصورة مبرمجة، خاصة أن المملكة العربية السعودية بسياستها الوسطية الرصينة ومكانتها التاريخية والدينية العريقة، مهيأة لهذا الأمر عن جدارة، وتمتلك رصيدا كبيرا من الولاء والتقدير في قلوب المسلمين بشكل عام..

لقد آن الأوان أن تلعب المملكة العربية السعودية دورها الحقيقي في ترتيب البيت الإسلامي ووضع حد لحالة التشرذم السياسي والفكري القائم.. فهل تفعل؟

* كاتب كردي عراقي