عندما يكتب عبد الوهاب

TT

طبعا شهادتي عن المطرب (محمد عبد الوهاب) مجروحة، لأنني من أشد المعجبين بأغانيه خصوصا القديمة منها. ويروى عنه أنه في (الثلاثينات) الميلادية من القرن الماضي دعاه أحد (المآمير) لإحياء حفلة بمناسبة تخصه في أحد النوادي، وعندما سأله المندوب عن الأجر الذي يطلبه، قال عبد الوهاب: (خمسون جنيها).

فبهت المندوب وقال له: خمسون جنيها (حتة وحدة) يا مفتري؟! إن ذلك أكثر مما يتناوله حضرة البك المأمور في الشهر مرتبا(!!)

فرد عليه: الأمر بسيط، إذن خلي البك المأمور يغني.

وبدلا من أن أسمعكم وصلة غناء من المطرب عبد الوهاب، أفسح المجال لكي تقرأوا معي مقالا كتبه هو في أوائل الأربعينات الميلادية لإحدى المجلات، وجاء فيه:

«لو تتبعت الباعة وتلمست جمال التصوير في كلامهم، لأدهشك ما تلحظه من جمال في الصورة، وأناقة في التعبير.. فبائع الكمثرى، مثلا، لا يرى أنه يبيع الكمثرى، وإنما هو يبيع: (قلل الشربات)، تمثّلْ هذه المعاني اللطيفة، وتذوّق المقارنة بين فاكهة الكمثرى و(قلل الشربات)، ثم ابحث عن لفظ آخر فيه خفة هذا التشبيه، وهيهات أن تجد.

وبائع البطاطا لا يبيعك البطاطا، وإنما هو يبيع (قرب العسل)، تمثّل هذه الدقة، وهذه البساطة، التي ترتفع حتى على التعابير المركبة. وتذوقْ مرة أخرى ما في قولهم (قلل الشربات - وقرب العسل) من انسجام في الصورة، واللون، والطعم.

وأما بائع البلح، فأنشودته أمام عربته: (عسل وساح مني يا مين يجيب الأناجر)، فتخيل كيف ساح منه العسل، ثم خبرني، أو فاذهب إليه ومعك (الأناجر) فإنه في انتظارك!

وبائع العنب يعطيك الصورة واللون دون الطعم، إذ يقول: (يا بيض اليمام ومحني كمان يا عنب.. و.. عنب وعناب وهدية للأحباب يا.. يا عنب).

وحتى بائع الترمس، فإنه يقول: (دنا اشتريته ترمس لقيته لوز يا لوز يا.. يا.. يا ترمس). فهو إذن لا يعترف لك بـ(ترمسيته) وإن كان في الحقيقة لا يبيعك سواها.

وللباعة تشبيهات في منتهى الطرافة. فالباذنجان (عروس).. وتخيل عروسا سوداء على رأسها طرحة خضراء! وقد يبلغ الأمر بالبائع أحيانا أن يغازل بضاعته غزلا، أو كالغزل، فيه الصد، والهجران، وذكر العواذل..

استمع إلى مناجاة بائع التفاح: (يا ناعم، الهوى رماك.. وأنا الطمع اللي رماني)، و(راحُم يجيبوا زيك غرقت مراكبهم)، و(يا مورد الخدين يا ناعم)، و(مهما قال العزول بيزيد هيامي بيك) إلخ..

وبعد.. فهلا ترى أن للعامة بلاغة، وأن لهم ذوقا وفنا؟!».

نعم يا (سي) عبد الوهاب، إن لهم ذوقا وفنا، مثلك أنت تماما بتمام.

[email protected]