مخطط تفتيت المجتمعات العربية.. تطبيق في مصر

TT

من المحزن جدا جدا جدا أن يجتهد المرء في نصح قومه وينذرهم بمخاطر وشيكة، فلا يستبينون النصح: لا في صبح الغد، ولا في مسائه، ولا فيما يليه من أيام.. ومما يزيد الحزن مرارة: أن هذا النصح لم يكتم حقا، ولم يجامل أحدا، ولم يطلب أجرا من أحد.. وأسوأ الناس - عاجلا وآجلا - من يزهد في «النصح المجاني»، إذ إن هذا الزهد برهان على غيبوبة العقل، وضعف الإحساس بما ينفع الذات. بيد أن هذا الحزن لم يصبح - بحمد الله - دافعا للإحباط، ولا سببا في الزهد في استمرار بذل النصح: «أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين».

قبيل الانتفاضات أو الثورات التي ماجت بها أقطار عربية - ولا تزال تموج - حاولنا إيقاظ النائمين العرب بتحويل أنظارهم ولفتها إلى مخطط تفكيك أوطانهم، وهو مخطط انتقل من دائرة نظرية المؤامرة - المختلف فيها - إلى دائرة الوقائع الموضوعية التي لا تحتمل خلافا.. وهذه الوقائع الموضوعية الناطقة بحقيقة التفكيك ذات صورتين: صورة التفكيك الجغرافي، كما جرى في السودان حيث انشق البلد الواحد إلى دولتين، شمالية وجنوبية، وكما وقع في العراق حيث تشظى العراق - في حقيقة الأمر - إلى كيانات جغرافية وطائفية شتى، وإن في ظل «وحدة صورية» أو شكلية.. وهذا الوضع هو العلة الدفينة وراء عجز الأداء الحكومي.. وتعطيل التنمية والبناء.. وتدهور الأمن والاستقرار.. وغياب دور العراق - من ثم - عن الإقليم والعالم.. وكذلك من صور التفكيك الجغرافي «الوضع الجغرافي الغامض» في ليبيا، والتسريبات المفزعة عن تقسيم هذا البلد إلى شرق وغرب!..

أما الصورة الأخرى من المخطط فهي «التفتيت المعنوي» أو الفكري والعقائدي والاجتماعي.. ومن «ألغام» هذا التفتيت: «لغم» الصراع الديني بين مسلمي المنطقة ومسيحييها.. وما يجري في مصر اليوم من توترات حادة بين مكوني البلد «المسلمين والأقباط» دليل حاسم وموثق على وجود مخطط التفتيت «الخارجي».. ونحن ننصح الأمة - حكاما وشعوبا - بأن تمتلئ استخفافا بالذين يريدون تنويم وعيها من خلال «نفي مخطط خارجي»، وهو نفي يبدو وكأنه إطلاق دخان كثيف - عن عمد - لأجل تغطية زحف العدو، وتغطية نشاطه التفتيتي.. وإذا كان لا بد من قرائن قوية ترقى إلى مرتبة الدليل، فهذا هو بعض القرائن:

أ) عاموس يادلين رئيس الاستخبارات العسكرية السابق (تقاعد في أكتوبر عام 2010). وقد قال قبيل تقاعده: «إن مصر هي الملعب الأكبر لنشاطنا. ولقد نجحنا في تصعيد التوتر الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة دائما».

ب) أن إسرائيل انزعجت إلى درجة «الهلع» من حبوط مخططها التفتيتي: حبوطه بواسطة التفاهم الإسلامي المسيحي في المنطقة.. وكان مؤتمر مسيحيي الشرق الأوسط في الفاتيكان هو أبرز مظاهر وركائز هذا التفاهم.. ففي أكتوبر الماضي (ذات الشهر الذي أطلق فيه عاموس يادلين تصريحه الرهيب) انعقد ذلك المؤتمر الكنسي، وصدرت عنه وثيقة مهمة جدا أصابت إسرائيل بما يشبه حالة من الجنون.. لماذا؟ لأن الوثيقة أبطلت دعوى الصهيونية في احتلال فلسطين: استنادا إلى فقرة في «التوراة»!! قالت الوثيقة: «إنه لا يمكن لإسرائيل أن تستند إلى عبارة (أرض الميعاد) لتبرير انتقال اليهود إلى إسرائيل وتهجير الفلسطينيين من أرضهم.. إننا نناشد الأسرة الدولية، ولا سيما منظمة الأمم المتحدة أن تعمل جادة من أجل تحقيق السلام العادل في المنطقة وذلك بتطبيق قرارات مجلس الأمن واتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية لإنهاء الاحتلال في مختلف الأراضي العربية، وتوجِد لمدينة القدس الصيغة العادلة للمحافظة على طابعها الخاص وعلى قداستها وتراثها الديني لكل من الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.. وعلى إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عقب حرب يونيو (حزيران) 1967، مع العلم أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني هو أساس كل النزاعات في المنطقة. وقد كان المسيحيون هم الضحايا الرئيسيين للحرب في العراق».

ج) أن العقيدة الصهيونية الاستراتيجية منذ قامت إسرائيل وإلى اليوم - وإلى الغد - هي: أن بقاء إسرائيل وتماسكها وازدهارها مشروط بوجود عالم عربي ضعيف ومفكك وممزق.

د) أن مصر هي أكبر بلد عربي.. وبلد هذا وزنه + تنمية حقيقية + وحدة وطنية مكينة وشاملة = نهضة علمية اقتصادية سكانية كبرى قوية وفاعلة.. مصر بهذه القوة والاستقرار تمثل الخطر الأعظم على إسرائيل - مهما كان نوع الاتفاق بين الطرفين - ولذا (يقول المنطق الإسرائيلي): لا خيار أمامنا لدفع هذا الخطر الماحق عن أنفسنا إلا العمل الجاد على إبقاء مصر ضعيفة مضطربة مفتتة طائفيا واجتماعيا (نقترح إعادة قراءة تصريح عاموس يادلين السابق).. أليس مما ينسجم مع مخطط تفتيت مصر. بل مما يخدم هذا المخطط الشرير العدوانات على الكنائس في الإسكندرية وإمبابة؟.. ثم أليس مما يخدم هذا المخطط «التداعيات» الاجتماعية التي ترتبت على هذه العدوانات: من ارتفاع معدلات التوترات الدينية، واضطراب في الأمن، وانغماس في هذه القضية: ألهى الجميع - ولا سيما الدولة - عن مواجهة التحديات والأوليات الأخرى، الأولى بالإنجاز على الصعيدين: الداخلي والخارجي؟.. ألا يذكّر هذا كله، ويفتح العين من جديد على العقيدة الصهيونية الثابتة وهي: أن استقرار إسرائيل وقوتها مشروطان بتخليق «البيئات المتصارعة دائما» - وفق تعبير عاموس يادلين -.

إن العدوان على الكنائس سلوك غريب مريب في المجتمعات الإسلامية، ولا سيما مصر التي عُرفت على مدى تاريخها بالتسامح والتعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب.. وهذا الشذوذ في السلوك يُعرف من خلال شهادات رجال دين مسيحيين كبار مثل القديس «أوغسطين». فقد نقل عنه دوغلاس ريد في كتابه: «جدل حول صهيون» العبارة المضيئة الأمينة التالية، إذ قال أوغسطين: «إن الإسلام أتاح لغير المؤمنين به الحرية الاقتصادية وإدارة الحكم الذاتي. وكان الإسلام متسامحا بوجه عام مع أتباع الديانات الأخرى. وإن ما حققه الدين اليهودي من ازدهار وحرية في ظل الإسلام، ما كان بالإمكان تحقيقه في بداية انتشار الديانة المسيحية».. بيد أن هناك مقياسا أعظم وأثبت وأوثق: يقاس به ويُعرف هذا السلوك الشاذ المتمثل في العدوان على الكنائس.. هذا المقياس هو القرآن العظيم وموقفه من معابد الآخرين، ومنها الكنائس.. ففي أول آية أذنت بالجهاد نقرأ في سورة الحج قول الله جل ثناؤه: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز».. فهذه الآية توجب الدفاع عن دور العبادة كافة وتوفير الحماية لها: دور العبادة الإسلامية وغير الإسلامية.. فصوامع الرهبان، وبيع النصارى - بعامة - وصلوات اليهود وهي كنسهم. هذه كلها ليست للمسلمين. ومع ذلك جاء الإيجاب بالدفاع عنها وحمايتها من العدوان.. يقول ابن جرير: «والصواب: لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين».. ولئلا تُهدم هذه المعابد شُرع الجهاد في الإسلام!!.. وهذا الدفاع الواجب عن معابد غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية منبثق من عقيدة أوكد وأسبق وهي: إيمان المسلمين بديانات موسى وعيسى - عليهما السلام -، وبكل دين جاء به نبي من أنبياء الله.. فالاعتراف بوجود معابد لليهود والنصارى جزء من الاعتراف بدياناتهم في الأصل.. فكيف يسمح مسلم لنفسه بالعدوان على هذه المعابد، حتى وإن طوّل لحيته وصلى وصام زعم أنه مسلم؟ وباستبعاد أن يقدم على ذلك مسلم صادق الإيمان: يتوكد أن من يفعل ذلك إنما هو مجرد أداة في مخطط عاموس يادلين، أي مخطط تفتيت المجتمعات العربية، وفي طليعتها المجتمع المصري.