الثورة المصرية في الدوحة

TT

عقد المؤتمر السنوي الحادي عشر لمنتدى الدوحة في الأسبوع الماضي، وحضره – كالعادة – نخبة واسعة من المختصين والسياسيين والمهتمين عربا وأجانب من أركان العالم الأربعة. على رغم من تعدد محاور النقاش، فإن ما هو متوقع قد فرض نفسه على هذه الدورة الأهم، وهو بالتحديد ما عرف في الكتابات ووسائل الإعلام بـ«ربيع العرب». أخذ هذا الموضوع معظم وقت النقاش، داخل المنتدى وعلى هامشه.

في المداخلة التي قدمها كاتب هذه السطور في الجلسة السادسة من مساء اليوم الأول ذهبت إلى عرض الفكرة المناقضة للسائد، أن ربيع العرب ليس ربيعا بالمعنى السائد، هو مليء بالعواصف، بل وينذر بعودة الشتاء. مبكرا الحديث عن ديمقراطية جيفرسونية أو وستمنسترية، على الطريقة الأميركية أو البريطانية! على الرغم مما يرى معظم المتحمسين، وجلهم ممن يقدمون العواطف على الحقائق الظاهرة على الأرض.

الديمقراطية ثقافة ومجتمع منتج، والاثنان غير متوافرين بشكل واسع – حتى الساعة – في معظم الدول العربية. انتقلت مجتمعاتنا من مجتمعات زراعية أو اقتصاد شبه بدائي هامشي، إلى الاقتصاد الريعي، وهذا لا يوفر خلفية اقتصادية اجتماعية لقيام ديمقراطية حديثة. قد يوفر صناديق انتخاب وعددا كبيرا من الأحزاب، وتناحرا اجتماعيا يلبس لبوس السياسة، ولكن هذا كله ليس ديمقراطية تبني مجتمعا حديثا.

إذا نصبت صناديق الانتخاب، فإن جل الناخبين سوف يعودون إلى ما سبق أن عرفوه.. انتخاب من هم أقرب في العائلة أو المنطقة أو القبيلة أو تغليب المصالح الذاتية بدلا من المصالح العامة والمشتركة. لم يستطع العرب – حتى الآن – تفكيك الخطاب المتعصب، ذلك بسبب نقص ذريع في نوعية التعليم. التعليم العربي قاطبة ينتج متعطلين، بسبب عدم قدرته على تعليم مهارات حديثة، وينتج متعصبين بسبب عدم رغبة القائمين عليه في مساير العالم الحديث، وهضم أولوياته.

التعصب العرقي والديني والمذهبي والمناطقي والقبلي، هو السائد، وهو خبز ومرق السياسيين باجتهاداتهم المختلفة، هم يستقطبون المؤيدين لا بسبب ما سوف يقدمونه من إصلاحات للهوية الوطنية، وإنما بحجم كرههم أو تضخيم كرههم للآخر المواطن تعزيزا للهويات الصغرى. المختلف مذهبيا أو دينيا أو مناطقيا أو عرقيا أو لغة أو لونا هو العدو في الوطن. عدم القدرة على تفكيك التعصب صب بعدم رغبة في بناء دولة حديثة ذات مؤسسات. ما نراه من انتفاضات، وهي تعريف أكثر دقة في التوصيف من الثورات، ما نراه هو فشل ذريع في إقامة الدولة الحديثة. انقسم السودان على نفسه بسبب الفشل المزدوج في إقامة الدولة والفشل في تفكيك التعصب وتعظيم الهويات الصغرى، وهذا العراق يئن من فشل آخر بتعثر بناء الدولة، وهنا ليبيا تكاد تنقسم على نفسها لنفس الأسباب، ويتبعها اليمن، الذي وجد أخيرا صورة من صور الخلاص من المعارضة عن طريق القمع الذي قدم له السوريون صورة واضحة المعالم!

في الخليج الأمور أكثر تعقيدا، فرغم أنه الأقل سكانا، فإن دوره في المنطقة العربية يتضاعف، وقد يجلب هذا الدور بعض ردود الفعل التي لا ترضى عنه، كما يتطلب هذا الدور التفكير في الداخل. في الأسابيع الأخيرة استقبل رأس الدولة الأميركية الرئيس باراك أوباما مسؤولين كبيرين من الخليج، هما الشيخ خليفة بن حمد أمير قطر، والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، وهذا يعني، ضمن ما يعني، الدور المتعاظم لدول الخليج على المستوى الدولي. الخليج تدخل بشكل نشط، على الأقل من قبل دولتين فيه، في الموضوع الليبي، وتدخلت كل دول مجلس التعاون في الموضوع اليمني، كما أن التيارات الانتفاضية في عدد من الدول، كان لها صدى بمعنى أو آخر في دول الخليج، ولو أن هذا الصدى خافت عن طريق تقديم بعض العرائض المطالبة بالإصلاح في هذه الدولة أو تلك، كما تعرضت دولتان إلى شكل من أشكال الاحتجاج يختلف في الحدة والدرجة هما عمان والبحرين جراء تأثير هواء الانتفاضات العربية الساخن.

باختصار، الخليج ليس بعيدا عن التأثير والتأثر.. الاتصال والاستجابة، لهذا فإن خطوات عاجلة يتوجب النظر فيها، منها نقل منظومة التعاون إلى شكل من أشكال الكونفدرالية، فالوحدة النقدية تراوح مكانها.. التنسيق في شؤون الدفاع والسياسة الخارجية متأرجح، فوق كل ذاك فإن تعاظم درجات التسلح الإيراني، هو في حد ذاته قد يجلب المصاعب.

علينا أن نتذكر القاعدة المهمة والعالمية.. إن تراكم السلاح لدى أي دولة، وفي ظروف معينة، قد يغريها هذا التراكم في السلاح باستخدامه. القصة المشهورة تجربة أدولف هتلر في ألمانيا النازية، والأقل شهرة تجربة النظام العراقي السابق، أي إذا توافرت كمية كبيرة من السلاح لدى دولة تنقصها الديمقراطية، فقد يقود هذا التراكم إلى فتح شهية التوسع. الاحتمال أن يرى بعض المسؤولين الإيرانيين أن الوقت مناسب في هذه الفوضى العربية لأن يقوم بشيء من ذلك احتمال قائم. على جبهة أخرى، فإن الغرب لسببين رئيسيين، الأول الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والثاني بسبب التورط العسكري الضخم في أفغانستان والعراق، الذي تتعاظم معارضته من الرأي العام الغربي، سوف يجعل هذا الغرب يتردد في الدخول في مغامرة عسكرية دفاعا عن أحد، ربما حتى لو كان الخليج، وهو يراوح في ليبيا اليوم. دون أن يقلع الخليجيون شوكهم بأيديهم، فإن احتمال أي مساعدة من الخارج ستظل تحت غطاء كثيف من الشك.

ربيع العرب قد ينتج شكلا من أشكال العسكرية الدينية أو الدينية المتلبسة بغطاء صناديق الانتخاب.

وجد بعض شباب الثورة المصرية في الدوحة أن مجمل التحليل ذاك يحتاج إلى نقاش، وعلى هامش اللقاءات كان لقاء كاتب السطور ببعضهم، قالوا إن الحيرة موجودة لديهم، وإن الفرحة لم يحن أوانها. كان النقاش مطولا، ناقشت للشباب، أن قيام الثورة أو الانتفاضة شيء، وبناء الدولة شيء آخر، والأخير هو التحدي الحقيقي، ولا أرى أن إمكانية بناء الدولة يمكن أن تتم – كما يرغب الشباب – إلا بعد زمن قد يطول، وتضحيات جسيمة عليهم توقعها! وتجارب العالم مفتوحة أمامنا لأخذ الدروس. ما حصل في بعض دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أمثلة واضحة، بعضها نجح بعد مخاض عسير، وبعضها تراجع تحت ضغط الأفكار والممارسات القديمة إلى ديكتاتوريات قبيحة. مصر، قلت للشباب، يرى كثير من المحللين العرب، أن ما يحصل بها يؤثر، عاجلا أو آجلا، في بقية النسيج العربي، تأكيدا مني على محورية مصر في عالمها العربي. اهتمام المصريين بالثأر اليوم يفقدهم فرص البناء، كما أن انشغال البعض بتصفيات قديمة أو توسيع الشقة بين خيوط النسيج المصري، يسمح بضياع كل الجهد الذي بذل حتى الآن. وعليهم الاختيار، فلن تتحقق آمالهم إلا بالفهم الصحيح والعمل الجاد، حيث إن تاريخا جديدا يكتب، أما الغوص في الماضي فهو إنتاج القديم في أغلفة جديدة. ما خرجت به من النقاش مع بعض شباب الثورة المصرية في الدوحة، هو أن الحيرة سيدة الموقف.

آخر الكلام..

من جوبلز إلى أحمد سعيد إلى أنس الفقي، الإعلاميون والكتاب والمرؤوسون، الذين زينوا لرؤسائهم أن الأوضاع مستقرة، وقالوا لهم عكس ما هو موجود بالفعل، أردوهم موضع التهلكة، ولكن لا أحد يتعظ، فالكل يحب أن يسمع ما لا يقلق راحته، حتى تقع الطامة الكبرى، بعدها لا نجاة من الغرق!