الجمال والمصداقية... وأيضا التعليمية

TT

سمعت أن خمس مذيعات استقلن من محطة «الجزيرة» بسبب الضغوط عليهن في مواضيع الالتزام بالحشمة والوقار. وكنت قد كتبت مقالة بعنوان «الجمال والمصداقية» قلت فيها إن مذيعة الأخبار والتعليقات السياسية والتقارير الجدية وإدارة مناقشة مهمة تشوش المشاهد إذا كانت صبية حسناء أمعنت في تزيين وجهها وتصفيف شعرها فينشغل بالنظر لحسنها وملاحظة مكياجها بدلا من الإصغاء لما تقوله. ولربما تفقد مصداقية ما تقوله؛ فقد يجد المرء صعوبة في تصديق ما يسمعه من خبر أو رأي نقاشي إذا سمعه من صبية مدلعة. هذا موضوع له عدة أوجه.

أولا: لماذا أختار صبية فاتنة لمثل هذه المواضيع ثم أنتقدها على استعراض جمالها؟ سيكون مثلي مثل من يختار سائقا شابا وسيما لسيارة البيت ثم ألوم امرأتي على الوقوع في حبه وارتكاب خيانة زوجية؟ المفروض اختيار الموظف المناسب للعمل المناسب.

ثانيا: هناك وجهة نظر أخرى لهذا الموضوع. يعتبر الإنجليز أكثر شعوب العالم في استهلاك الجرائد اليومية. قلما تجد أسرة لا تشترك بجريدة واحدة على الأقل. ومن المعتاد أن تراهم في القطارات مشغولين بقراءة إحداها غافلا عما أمامه من حسناوات. بيد أن هذا الهوس بالجرائد لا يعني الاهتمام بأحداث العالم. يشترونها لمتابعة أخبار كرة القدم وسباق الخيل وآخر ما هناك من فضائح وجرائم قتل واغتصاب وحكايات جنسية وصور خلاعية. تبادر لانتقاد ما يسمى بالصحف الصفراء التي تغرق في هذه المواضيع. بيد أن المدافعين عنها يقولون إن المواطن العادي لا يعبأ بأخبار العالم أو أسعار النفط وبرامج الأحزاب وما يقوله الساسة ليشتري جريدة من أجلها. يشتري الجريدة ليتفرج على صورة خلاعية أو يقرأ عن اغتصاب ممثلة شهيرة أو جريمة سرقة قطار، وهكذا. يقولون إن مثل هذا القارئ يتطلع للصورة الخلاعية، ولكنه سيجد بجانبها خبرا صغيرا عن سقوط حسني مبارك أو مقتل المتظاهرين في سوريا. وهكذا سيثقف نفسه بصورة عفوية. القليل أحسن من اللاشيء.

أستطيع أن أطبق نفس الحكمة على الفضائيات العربية. هناك منافسة حادة بينها. المواطن الأمي (وأكثرنا أميون) لا تعنيه أخبار العالم والأسواق الاقتصادية وكل هذه المشكلات السياسية والفكرية المعقدة ولا يفهمها. ما إن تبدأ المحطة ببث مناقشة سياسية حتى يكبس على الريموت ويفتش عن محطة أخرى تفرجه على سباق كرة قدم أو مسلسل غرامي أو حفلة غنائية. ولكنه إذا رأى وجها فاتنا أمامه على الشاشة فلربما يفتتن به ويبقى مع تلك القناة حبا بتلك الفتاة. كثير من الناس يقعون بحب مذيعة وينتظرونها على الشاشة بفارغ الصبر. ربما يكتبون الرسائل ويبعثون هدايا لها. وفيما يجلسون يستمعون لصوتها ويحدقون بعينيها وشفتيها، يسمعون منها أن حسني مبارك قد سقط وأن عشرات من الأبرياء قد قتلوا في سوريا. القليل أحسن من اللاشيء. فدون هذا الوجه الجميل سينصرف هذا المشاهد الأمي ليتفرج على الخيل أو الكلاب ويجهل ما يجري لإخوانه المواطنين.

وجهان لنفس المشكلة وطوبى لمن يحسن الاختيار.