حول الديمقراطية في مواجهة الحرية

TT

توضح الأحداث الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجددا كيف يساء استخدام اللغة والتاريخ. وسواء في شوارع القاهرة أو على شبكة الإنترنت، يساء استخدام الكلمات إلى حد كبير بدرجة جعلتها تفقد معناها الأصلي. والانزلاق الدلالي فن يتم ممارسته من قبل طبقات مثرثرة على مدار العصور. وليس أقل من (الروائي الإنجليزي الشهير) جورج أورويل هو من شحذ هذه العادات الفكرية والعملية في مقاله الكلاسيكي الذي كتبه عام 1946 بعنوان «السياسة واللغة الإنجليزية». ومن واشنطن إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نشرت نغمات متنافرة من الأصوات كلمة (برج بابل) المختارة؛ وهي الديمقراطية.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى، شرع الرئيس وودرو ويلسون في مهمة تستهدف جعل العالم مكانا آمنا للديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، سار الرؤساء الأميركيون على إيقاع قرع الطبول لمذهب ويلسون المثالي. والواقع أن معظم السياسة الخارجية الأميركية يجري تنفيذها تحت ذريعة - وربما الإيمان الحقيقي في بعض الحالات - أن أميركا معنية بتصدير الديمقراطية لبقية العالم. وتبعا لذلك، فإن المنطلق أو الأساس المنطقي الذي يعتمده الرئيس باراك أوباما للتدخل الخارجي ليس جديدا أو غير مألوف.

ولا ريب في أن الدهشة ستأخذ معظم الناس، بما في ذلك غالبية الأميركيين، حين يدركون أن تعبير «الديمقراطية» لم يرد في إعلان الاستقلال (1776) أو في دستور الولايات المتحدة الأميركية (1789). كما ستصيبهم الدهشة أيضا حين يدركون سبب غياب كلمة الديمقراطية من الوثائق المؤسسة للولايات المتحدة الأميركية. وخلافا للاعتقاد الذي زرعته الدعاية في أذهان الجمهور، فقد كان القلق والتشكيك ينتاب الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية بشأن الديمقراطية. وكانوا يدركون الشرور التي تصاحب طغيان الأكثرية. وقد بذل صائغو أو معدو الدستور جهدا كبيرا لضمان أن لا تكون الحكومة الاتحادية مستندة إلى إرادة الأكثرية وأن لا تكون، تبعا لذلك، ديمقراطية.

لقد قسَم الدستور الحكومة الاتحادية إلى فروع تشريعية وتنفيذية وقضائية. وتم إعداد كل فرع بحيث يراقب ويضبط سلطة الفروع الأخرى. ولم يشأ المؤسسون أن يعتمدوا فقط على الناخبين لمراقبة وضبط سلطات الحكومة. ونتيجة لذلك، فقد أعطيت للمواطنين سلطة محدودة لاختيار المسؤولين الاتحاديين. ولم يكن يجري انتخاب الرئيس وأعضاء السلطة القضائية ومجلس الشيوخ بالانتخاب الشعبي المباشر. وكان أعضاء مجلس النواب فقط هم من يجري انتخابهم بصورة مباشرة بالانتخاب الشعبي. وحتى في هذه الحالة، كان هذا الحق أو التفويض الدستوري مقيدا.

وإذا كان صائغو الدستور لم يعتنقوا ويتبنوا الديمقراطية، فما الذي كانوا يلتزمون به؟ لقد اتفق المؤسسون أو المعدون على أن الغاية من الحكومة كانت تتلخص في ضمان تمتع المواطنين بحقوق جون لوك الثلاثية في الحياة والحرية والملكية. وقد كتب صائغو الدستور مطولا وبمنتهى الفصاحة حول ذلك. على سبيل المثال، كتب جون آدمز عن الملكية يقول إنه «في اللحظة التي تتكرس في المجتمع فكرة أن الملكية ليست مقدسة كالقوانين الإلهية وأن ليست هناك قوانين ملزمة وعدالة عامة تقوم على حمايتها، حينئذ تبدأ الفوضى والطغيان».

وكانت أفعال المؤسسين في الغالب أقوى من أقوالهم. وقد تولى ألكسندر هاملتون، المحامي المرموق، كثيرا من القضايا الشهيرة المخالفة لهذا المبدأ. ففي أعقاب الحرب الثورية، كانت ولاية نيويورك قد سنت إجراءات قاسية ضد الموالين للحكم البريطاني على غرار قانون المصادرة (1779)، وقانون الاستحضار للمحكمة (1782) وقانون التعدي (1783)، وهي جميعها قوانين تعنى بانتزاع الملكية. ويرى هاملتون أن هذه القوانين إنما كانت تعكس التباين الفطري بين الديمقراطية والقانون. وعلى الرغم من أن هذه القوانين كانت تتمتع بشعبية واسعة، فإنها خالفت على نحو متعمد مبادئ جوهرية في قانون الملكية. وقد قام هاملتون بتطبيق آرائه بصورة عملية ودافع بنجاح - في مواجهة عدائية هائلة من الجمهور - عن أولئك الذين انتزعت ملكياتهم بموجب قوانين ولاية نيويورك الثلاثة.

ويمكن القول إنه قد تم إعداد الدستور على نحو يعزز من مبدأ الحرية لا الديمقراطية. ولهذا الغرض، فقد تولى الدستور حماية حقوق الأفراد من الحكومة ومن المواطنين الآخرين على حد سواء. وبغية تحقيق ذلك، أرسى الدستور قواعد واضحة وصريحة ونافذة لحماية حقوق الأفراد. وتبعا لذلك، فقد تم تضييق نطاق عمل الحكومة وسلطاتها إلى حد كبير. وأولى الدستور الحرية الاقتصادية، وهي شرط مسبق للنمو والرخاء، مكانة مقدسة. وهذه هي الطريقة التي ظلت عليها الأمور فيما يتعلق بالتطور والنمو الاستثنائي الذي حققته الولايات المتحدة خلال القرن الأول.

* أستاذ العلوم الاقتصادية التطبيقية في جامعة جون هوبكنز في بالتيمور، ميريلاند (الولايات المتحدة).