حينما تفقد سياسة التقشف جدواها

TT

كثيرا ما أشكو من حالة النقاش عن الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة.. إن عدم المسؤولية الذي يتسم به بعض الساسة ومنهم الجمهوريون، الذين يزعمون أن التخلف عن سداد الديون الأميركية ليس بالأمر المهم، يثير القلق والخوف.

لكن على الأقل في أميركا، يحصل أفراد المجموعة، التي تضع سياسات تضر بمن سواها من الذين يزعمون أن زيادة أسعار الفائدة وخفض الإنفاق الحكومي في مقابل ارتفاع معدل البطالة، أمور أفضل لا أسوأ، على قدر من الدعم من المصرف الاحتياطي الفيدرالي والإدارة الأميركية.

على الجانب الآخر في أوروبا، تسيطر الطبقة التي تضع سياسات تضر بمن سواها منذ أكثر من عام على مقاليد الأمور، ويصرون على أن الأموال التي تحافظ على استقرار القوة الشرائية والميزانية المتوازنة هي حل المشكلات كلها. ويتجلى هذا الإصرار من خلال الأوهام الاقتصادية والإيمان بقصة تعزيز الثقة الخيالية، وهي أن الاعتقاد أن خفض الإنفاق سوف يساعد في توفير الوظائف؛ لأن التقشف المالي سوف يعزز الثقة في القطاع الخاص.

لسوء الحظ يبدو أن وهم تعزيز الثقة يرفض التجسد. ويمثل الجدل حول معالجة الواقع غير المناسب تهديدا ينذر بتعرض أوروبا إلى أزمة مالية جديدة. فبعد ظهور عملة اليورو على الساحة عام 1999، بدأت الدول الأوروبية التي كان يعتقد أنها مصدر للخطر، وبالتالي تم فرض حدود وقيود على القروض الممنوحة لها، تشهد تدفقا كبيرا لرأس المال. ويبدو أن المستثمرين تساءلوا عن مدى سوء الوضع بالنظر إلى أن اليونان والبرتغال وآيرلندا وإسبانيا دول أعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي.

لكن تبدو الإجابة عن هذا السؤال الآن مؤلمة.. فبعد أن وجدت الحكومة اليونانية أنها تستطيع الاقتراض بأسعار فائدة أعلى قليلا من أسعار الفائدة للقروض الممنوحة لألمانيا توجهت إلى زيادة ديونها. على الجانب الآخر لم تتبع الحكومتان الآيرلندية والإسبانية هذا النهج، بينما اتخذت البرتغال طريقا بين الاثنتين. لكن المصارف في الدولتين سارت عليه، وعندما انفجرت الفقاعة، وجد دافعو الضرائب أنفسهم في مواجهة ديون للمصارف. وازدادت المشكلة سوءا نتيجة الازدهار الاقتصادي منذ عام 1999 إلى 2007، الذي أدى بدوره إلى الفجوة بين الأسعار بالبلدين والأسعار في دول الجوار.

ما العمل إذن؟ اقترح قادة الدول الأوروبية تقديم قروض طارئة إلى الدول التي تمر بأزمة، لكن في مقابل الحصول على وعود من تلك الدول بتطبيق برامج تقشف تتضمن بالأساس خفضا كبيرا في النفقات. لم يتم الاهتمام بأوجه الاعتراض على هذه البرامج، ومنها: أنها تحمل أسباب فشلها؛ حيث لن تسبب الكثير من الألم المباشر وحسب، بل أيضا ستؤدي إلى انخفاض العائدات لأنها ستزيد من التراجع الاقتصادي. وتزعم أن نطاق سياسة التقشف سوف يتسع لأنها ستعزز الثقة.

أكثر من اقتنع بتوسيع نطاق التقشف هو جان كلود تريشيه، رئيس المصرف المركزي الأوروبي. وبدأ خلال فترة رئاسته للمصرف المركزي الترويج لسياسة التقشف باعتبارها العلاج الاقتصادي العالمي الناجع الذي ينبغي أن يتم تطبيقه في البلاد كلها، ومنها: بريطانيا والولايات المتحدة، اللتان تشهدان معدل بطالة مرتفعا ولا تواجهان أي ضغوط من الأسواق المالية.

لكنني قلت: إن وهم تعزيز الثقة لم يتجسد. وكما كان متوقعا، تشهد الدول الأوروبية، التي منحت القروض للدول المتعثرة، المزيد من التراجع الاقتصادي نتيجة برامج التقشف ولم يتم تعزيز الثقة بل تراجعت. وبات من الواضح الآن أن اليونان وآيرلندا والبرتغال غير قادرة على تسديد ديونها بالكامل، على الرغم من أنه من المرجح أن تتمكن إسبانيا من الصمود.

من الناحيتين الواقعية والعملية، تحتاج أوروبا إلى خفض ديون يتضمن مزيجا من المعونة التي تمنحها الدول ذات الاقتصاد القوي وإجبار الدائنين من القطاع الخاص، الذين سيتعين عليهم تقبل عدم الحصول على الدين كاملا، على الحد من تقديم القروض. لكن يبدو أن الواقعية لا تحظى بالاهتمام الكافي.

من جانب آخر، تتخذ ألمانيا موقفا صارما ضد منح دول الجوار المتعثرة أي أموال في إطار يشبه المعونة على الرغم من أن من أسباب تطبيق برنامج الإنقاذ الحالي: محاولة حماية المصارف الألمانية من الخسارة.

على الجانب الآخر، يبدو المصرف المركزي الأوروبي وكأنه يفتعل أزمة مالية؛ حيث بدأ في زيادة أسعار الفائدة على الرغم من الحالة الاقتصادية المتدهورة في الكثير من الدول الأوروبية. ويحذر مسؤولو المصرف من تسديد الديون؛ حيث أشار أحد أعضاء مجلس إدارة المصرف، الأسبوع الماضي، إلى أن أي إعادة لهيكلة السندات اليونانية، ولو طفيفة، سوف تدفع المصرف نحو الامتناع عن قبول هذه السندات كضمان للقروض الممنوحة للمصارف اليونانية. وتصاعد الأمر ووصل إلى التصريح بأنه إذا سعت اليونان إلى تخفيف الدين سوف يوقف المصرف المركزي الأوروبي التعامل مع القطاع المصرفي في اليونان، الذي يعتمد بالأساس على هذه القروض.

ربما يؤدي انهيار القطاع المصرفي باليونان إلى طرد اليونان من منطقة اليورو؛ حيث من السهل رؤية كيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى انهيار النظام المالي في أغلب أنحاء أوروبا.. فما الذي يفكر المصرف المركزي الأوروبي في القيام به؟

أعتقد أنه لا يرغب في مواجهة حقيقة فشل أوهامه، وإن بدا ذلك نوعا من الحماقة، فمن ذا الذي قال إن الحكماء هم من يحكمون العالم؟

* خدمة «نيويورك تايمز»