من المصالحة الروحانية إلى المصالحة المخابراتية

TT

في رحاب مكة المكرمة وبرعاية من الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي انتقل من الرياض إلى مكة المكرمة، ليكون بجوار الحرم الشريف، ويعزز بوجوده مصالحة الشقيقين اللدودين فتح وحماس، اتفق قطبا العمل الفلسطيني على وضع الشقاق وراءهما والوفاق أمامهما، وأقسما في ختام اجتماعاتهما يوم 8 فبراير (شباط) 2007 على مرأى من الملايين الذين تابعوا عبر الفضائيات اللقاء والاتفاق، على أن يلتزموا بما تم الاتفاق عليه. ولقد أثلج ذلك المشهد صدور أبناء الأمتين، وترك انطباعا بأن الدولة الفلسطينية لم تعد على البعد الذي كانت عليه، وإنما هي أقرب إلى المنال في ضوء اتفاق الشقيقين الفاعلين في ساحة العمل الفلسطيني على التكاتف وتنشيط النضال السياسي، كونه يحظى بالرضا النسبي عربيا ودوليا.

لم تدم الفرحة العربية والإسلامية طويلا باتفاق الشقيقين اللدودين، فقد استعاد الاثنان حالة الخصام، وهذه المرة باستعمال نعوت وأوصاف لقيت الارتياح في نفوس الإسرائيليين الذين انزعجوا عندما حدثت المصالحة الفلسطينية في رحاب مكة المكرمة، وبدأوا منذ ذلك اليوم يعملون على تقويض ما تم إنجازه على طريق التوحد الفلسطيني، وتلتقي مع هؤلاء الأعداء مصالح أطراف عربية وإقليمية كان من واجبها تدعيم الوفاق الفلسطيني المستجد بدلا من زرع الشقاق واعتماد سياسة فرق تتسيد.. وبالتالي تسد. وما رأيناه على مدى أربعين شهرا تلت المصالحة في رحاب مكة المكرمة دليل على ما نقول، كما أن الله سبحانه وتعالى شهيد على أن أسوأ الأحوال الفلسطينية حدثت نتيجة عدم الالتزام بتلك المصالحة، وبالذات لأن حنثا للقسم وعلى كتاب الله حدث أيضا. وهذا أمر أشبه بالكبائر.

بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر يستبدل الشقيقان الفلسطينيان اللدودان الرحاب المقدسة للاتفاق بالرحاب الأمنية المخابراتية ويتم يوم الأربعاء 4 مايو (أيار) 2011 في مقر جهاز المخابرات المصرية في حدائق القبة بالقاهرة احتفال مثلث أقطابه: الرئيس محمود عباس وبعض كبار الرفاق في فتح، وخالد مشعل وبعض كبار الرفاق في حماس، ومعهم الحليف الجهادي رمضان شلح، ووزير المخابرات المصري (في عهد ثورة 25 يناير) اللواء مراد موافي، إضافة إلى وزير خارجية تركيا أوغلو ومعظم السفراء العرب في القاهرة يتقدمهم الأمين العام للجامعة عمرو موسى، ووفود تمثل عددا من الفصائل الفلسطينية ورموز المجتمع المدني السياسي الفلسطيني.

المصالحة الفلسطينية الثانية تندرج تحت بند للضرورة ثلاثة أحكام. فما يحدث في سوريا يستوجب على حماس إعادة انتشار سياسي. وما يحدث في المجتمع الدولي لجهة الاقتناع بتسريع صيغة الدولتين على أرض فلسطين يستوجب إعادة تعديل في النظرة الجهادية. وما حدث في مصر يستوجب مراجعة جذرية من جانب حماس. وما هو حاصل في المجتمع الفلسطيني من أراضي «سلطة رام الله» إلى أراضي «دولة غزة» يشكل عنصر ضغط على الشقيقين اللدودين من أجل الاعتراف بإخفاق نهجيهما وضرورة التوصل وعلى قاعدة المصالحة أولا إلى نهج جديد مشترك يتقاسم الطرفان فيه الالتزامات والتبعات، خصوصا في ضوء الابتهاج الشعبي غير المسبوق من جانب الرأي العام الفلسطيني بالاتفاق.

لن نتوقف عند الكلام الذي سمعناه من الرئيس محمود عباس نيابة عن فتح وبالذات قوله «إن إسرائيل كانت تتذرع بالانقسام للتهرب من المفاوضات وهي الآن تتذرع بالوحدة للتهرب من التسوية، إن أي اتفاق نهائي لن يسمح لأي جندي إسرائيلي بالوجود على أي أرض للدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع والقدس عاصمة لها»، ومن الرئيس المنافس خالد مشعل نيابة عن حماس وبالذات قوله «إن الصفحة السوداء باتت خلف ظهورنا وتحت أقدامنا، وقررنا أن ندفع كل ثمن من أجل إتمام المصالحة وتحويل النصوص إلى واقع».

أما لماذا لن نتوقف فلأننا سمعنا بعد المصالحة الأولى في رحاب مكة المكرمة كلاما مماثلا من حيث الروحية، ومع ذلك حدثت الصدمة في نفوسنا من الذي جرى بعد ذلك. ثم إنه مثلما أن الأعمال بالنيات فإن الأقوال والوعود بالالتزام والتنفيذ. ومن الآن وحتى عشية انعقاد الدورة السنوية العادية للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل وهي الدورة المؤمل أن تسجل مناسبتها خطوة نوعية على طريق استيلاد الحل المتوازن للموضوع الفلسطيني متمثلا في إعلان مصر قيام دولة فلسطين وبمن يعترف بها من الدول حتى الآن، ستظل الأنظار من جانب أبناء الأمتين، وبالذات الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، شاخصة نحو سلوك طرفي المصالحة الفلسطينية الثانية كي لا يصيبها - لا سمح الله - ما أصاب المصالحة الفلسطينية الأولى في رحاب مكة المكرمة، علما بأن الالتزام بروحانية الأولى ودعما غير محدود لها من جانب عبد الله بن عبد العزيز وإخوانه وشعب المملكة، كان سيوفر على القضية وشعب فلسطين بضع سنوات من الهوان، ولا ندري إذا كانت مخابراتية المصالحة الثانية ستعوض ما فات. الله أعلم.