اليمن والانسداد السياسي

TT

الحديث عن اليمن شائك ومربك جدا، فعوامل الجغرافيا تتداخل بالتاريخ، وحالة الفوضى المرشحة في اليمن منذ عقود ليست إلا جزءا من ارتباك «الهوية» الحديثة بمعناها السياسي والاجتماعي ورافده الديني في اليمن المعاصر، يضاف إلى ذلك كم هائل من الجهل بالتفاصيل اليمنية من قبل الباحثين والمحللين ومراكز الأبحاث وأثره على الواقع، فهذا البلد المستعصي على الفهم بسبب حالة الغياب والتغييب التي عاشها كجزء من ذلك الارتباك الكبير، يقف الآن على شفير الانفجار ليعيد تشكيل نفسه من جديد وبتسارع لا يمكن التنبؤ بمداه أو آثاره، فالوضع في اليمن قد تجاوز بخطره مسألة رحيل الرئيس علي صالح.

إذا كان من عبارة يمكن أن توجز الحالة اليمنية فهي أنه بلد قائم على إدارة التناقضات بحيث أصبحت جزءا من اللعبة السياسية التي مارسها نظام الرئيس صالح بجدارة كما المعارضة والقوى الكبرى وعلى رأسها القبيلة بطابعها اليمني الخاص، حيث لا يشبهها سياق قبلي آخر في المنطقة، تلك التي شكلت، ولا تزال، البنية الأساسية، أو بتعبير آخر، المادة الخام للتناقضات التي يتم تشكيلها من قبل الداخل والخارج.

أبرز هذه التناقضات إذا جاز لنا انتزاع مصطلح فلسفي هو «الشكلانية»، وهو هنا مستعار لسياق سياسي واجتماعي؛ حيث بنية الدولة قائمة على شكل حديث كجمهورية ديمقراطية فيها أحزاب فاعلة وبرامج انتخابية ومعارضة قوية وتحالفات بين قوى معارضة بكافة أجنحتها من أقصى اليمين الإسلامي إلى أقصى اليسار الاشتراكي الذي كان، إلى عهد قريب، دولة مستقلة وما زال يفكر، حتى بعد الوحدة، بمنطق الحزب الدولة؛ حتى في ظل انحسار قاعدته الشعبية بسبب بقاء إرثه الكبير وذاكرته الجمعية.

الشكلانية على مستوى الدولة في اليمن تتجاوز هيكل الدولة، كما في تجارب عربية أخرى، إلى حدودها ومنطقها الداخلي، فهي أقرب ما تكون إلى سلطة مركزية مطلقة قائمة على إدارة التحالفات القبلية التي صبغت وجه الحياة السياسية والاجتماعية، فتراتبية الاقتراب من السلطة قائمة على مدى قوة القبيلة وتمددها داخل الحزب الحاكم وداخل قوى المعارضة كالإصلاح، وداخل النسيج الاجتماعي ومدى قدرتها على الاستقلال الجغرافي بحيث تتحول إلى ورقة ضغط على العاصمة، صنعاء، الممثل السياسي للإدارة المركزية، بحيث تصبح باقي المحافظات غير المدنية كتعز، أو المهمشة كالساحل، أو شبه المستقلة كالجنوب، مجرد انعكاسات للعبة التحالف تلك، وهذا لا يعني أن تسيير الأمور على مستوى الاقتصاد والحياة اليومية لا يخضع لمنطق الدولة المدني، إلا أنه مندمج في منطق القبيلة المتحالفة مع المركز؛ وهذا ما يفسر سهولة استقلال مناطق القبائل بحكم تسلحها بما يشبه الدولة داخل الدولة بمعناه الحرفي متى ما ضعف التحالف، بل وقطع إمدادات النفط أو اختطاف السياح كأوراق ضغط على القرار السياسي، وهو ما يجعل ثورة اليمن، رغم سلميتها وصبرها الطويل، لا تشكل سوى أداة جديدة لدخول سوق التحالفات السياسية؛ حيث لا مستقبل لها في ظل الرغبة في إسقاط النظام الذي لا يعدو أن يكون دولة شكلانية موجودة في الأذهان وليس الأعيان، كما يقول أهل المنطق، وهو ما يفسر سيطرة الإصلاح عليها الذي لا يعني، كما يخطئ كثيرون، سيطرة «الإخوان» الجماعة الأم بالضرورة، رغم أن الإصلاح هو امتداد لحركة «الإخوان» تاريخيا، إلا أنه في ظل تناقضات وارتباك الهوية الحديثة لليمن تحول إلى شكل جديد من الإسلاموية القبلية؛ إذا ما أخذنا في الاعتبار أن حركات الإسلام السياسي، وأمها جماعة الإخوان، قامت على شكل حديث ومدني من التشكل الاجتماعي، وهو مناقض للمحافظة القبلية التي في كل تجلياتها العربية تقريبا محايثة للخطاب السلفي غير المسيس، وهو ما جعل جزءا من تناقض الحالة اليمنية انحياز التيارات السلفية إلى سلطة الرئيس علي عبد الله صالح طوال العقود الماضية على الرغم من ممارسته للشكلانية الديمقراطية المرفوضة لدى المدرسة السلفية، التي كانت في الانتخابات التعددية تفتي بوجوب بيعة «الأخ الرئيس» باعتباره ولي الأمر الذي لا يجوز الخروج عليه، يقابله انفتاح تيار الإصلاح على التعاطي السياسي المتجاوز، حتى لـ«إخوان» مصر والمغرب، بتحالفه مع الحزب الاشتراكي في تجسيد للشكلانية التعددية على الرغم من أن قوة الإصلاح مستندة بشكل كلي إلى قوة القبيلة، قبيلة حاشد بزعامة عائلة الأحمر، حيث يشكل الحزب بمؤسساته وطريقة إدارته لعمله الاجتماعي ما يشبه الدولة على غرار حزب الله؛ لو استثنينا الجانب العسكري.

تنظيم القاعدة لا يشكل شذوذا خارج سياق التناقضات؛ فهو من جهة فاعل وبقوة عبر مناطق له فيها مؤيدون وأنصار وتشكلات اجتماعية وقواعد على الأرض بفضل وجود زعامات شاركت في ما كان يسمى بالمرحلة الجهادية؛ كالفضلي في أبين وآخرين في مناطق كمنطقة الجوف، ومع ذلك شكل التنظيم، رغم وجوده على الأرض، حالة أخرى من التناقض فهو لا يشبه مجموعات «القاعدة» الصغيرة المنكفئة على نفسها، كما هو الحال في العراق أو الأردن أو المغرب، بل هو جزء من التيارات المتحالفة مع القبيلة والمفاوضة للسلطة، حتى تم اعتباره، بسبب عدم فهم السياقات اليمنية الخاصة، جزءا من الأدوات التي يستخدمها النظام أو السلطة المركزية، في حين أنه جزء من تلك التحالفات التي كانت تدار بشكل تفاوضي عبر آليات الضغط السياسي أو العسكري.

ربما لا تسع المقالة للحديث عن جوانب اقتصادية واجتماعية تعزز فهم طبيعة التناقضات في المشهد اليمني اليوم، إلا أن ما يؤكده هذا الارتباك أننا بإزاء حالة خاصة من الصعب التنبؤ بمستقبلها حتى في ظل استجابتها لرياح التغيير، وإذا كان مستقبل مصر سيؤثر على باقي الثورات والنزاع الليبي سيشكل فارقا في استنساخ تجربة الثورة أو توقف الثوري بسبب انعكاس التجربة، وهكذا الحال للحالة السورية التي يصارع الداخل فيها البرود الذي يمارسه الخارج - خاصة الغربي - خشية البديل، فإن الحال في اليمن مرهون بمنطقه الداخلي وقدرته على إيجاد صيغة توافقية جديدة بعد فشل الشكلانية القائمة على التحالفات، التي أسسها نظام الرئيس علي عبد الله صالح، هذا لا يعني بحال عدم ضرورة مد يد العون له من قبل دول الجوار والمجتمع الدولي، لكن تلك اليد يجب أن تعمل طويلا وبشكل دؤوب على إعادة تأهيله اقتصاديا عبر الاهتمام بمسألة التنمية وإعادة الثقة للفرد بذاته وأمنه ومستقبله بوطن موحد مستقل لا يكون أسيرا للتناقضات.

[email protected]