فكيف لا أبكي عليها؟!

TT

هل تعرف «فيكي»؟ طبعا لا تعرفها.. ماتت، أو كأنها ماتت، لقد هاجرت إلى البرازيل، وحكايتها طويلة، ولكنها كانت أول وجه أراه وأول صوت أسمعه «يتلخبط» مني الكلام، بين العربية والفرنسية والإسبانية.. سمراء حلوة، طويلة. ما الذي كانت تقوله ونحن جالسون في المطعم؟ كانت تتكلم عن أشياء صغيرة. إنها موظفة في إحدى الشركات الإيطالية، وكل شيء حولها له قصة وحكاية، وهي مركز كل الحكايات، وكل شيء له أوصاف خاصة، وكل شيء مشكلة.

وكنت أتسلى بكل ما تقول، وأناقش بحماس، وأندهش لهذه القدرة الهائلة على أن يتحول كل شيء إلى عمل أدبي أو عمل فني، فكل شيء له أوصاف وألوان.. كل شيء، فهي لا تحكي؛ وإنما هي تكتب وترسم أيضا، فماذا قالت؟ ملأت أذني وعيني بالحكايات وبالرقة والحرارة والأمل.. هي عندها أمل، وهي على يقين من أنني سوف أكون شيئا مهمّا، ولا أعرف من أين جاء لها هذا اليقين، سألتها؛ قالت: رأيت في نومي!!

وهي على يقين تام من كل شيء، وحسدتها على نعمة الإيمان السهل القوي..

كأنها ماتت منذ زمن طويل، ولم أصادف، إلا نادرا، واحدة في مثل صدقها وإيمانها العميق، فكيف لا أبكي عليها؟!

لا أعرف كيف يكون شكل الدنيا لو بقيت هيلغا.. ماذا جرى لها؟ وماذا جرى لي بعدها؟ التقينا أول مرة في مدينة الثروك بجنوب النمسا.. لا يهم كيف كان اللقاء، ولكن هي التي تهم، كيف أنني لم أحاول أن أعرفها.. أن أدور حولها.. أن أقول لها حكاية.. أن أفتعل اهتماما وأنصب شبكة من الملاحظات والحكايات؟ هي رأتني وقالت لي: إنك تريد أن تعرفني؟ فقلت: أتمنى ذلك، قالت: إذن نحن قد تعارفنا، هيا بنا..

وانفتحت أمامنا شوارع المدينة ودروبها إلى الغابات وإلى الجبال، ليلا ونهارا.. إلى دنيا لم أرها، ولم أسمع ولم أقرأ ولم أتصور، ولا تخيلت.. هي تحمل سلة من التفاح والساندويتشات.. وأن نذهب إلى الغابة، والحيوانات والطيور والنهر يتدفق والأضواء مخيفة.. مخيفة لي. أما هي؛ فوجهها أبيض، وابتسامتها حلوة، وأسنانها صغيرة، والدم في خديها وشفتيها، وكل أضواء النجوم في عينيها، وأنظر إليها.. إنها خلاصة الجمال والفن والحيوية.. ما أوصافها؟ ما سر الجمال فيها؟ ما الذي أعجبني، ما الذي سحرني، ما الذي أوجع قلبي وعقلي عليها، ما الذي كان منها.. ما الذي بقي منها؟!