الفنان يستمتع مرتين: مرة بالإحساس ومرة بالتعبير!

TT

«إن أسرع حيوان ينقلك إلى الكمال، الألم»!

عبارة قالها المتصوف الألماني اكهارت، ولا تزال هذه العبارة جواز المرور إلى عالم الشعر والموسيقى والرسم والتمثيل.

وكما أن العذاب شرط الحب، فالفن توأم الكمال.. والكمال أمل العبقرية. والفنان يتعذب - هذا طبيعي - فهو أكثر الناس حساسية. والشاعر القديم عندما وصف محبوبه قال: «لمس الحرير يدمي بنانه»، أي إنها حساسة لدرجة أن الحرير يجرحها، وهي أيضا من صفات الفنان؛ فالفنان ينظر إلى ما ينظر إليه الناس، وينصت إلى ما يسمعون، ولكنه يرى ما لا يرون، ويسمع ما لا يسمعون. ولذلك، عرف الفنان الألم يوم الإحساس، وأدرك الجمال يوم استسلم للوجدان، وعايش العذاب يوم قرر التعبير عن الذي يتدفق في أعماقه.. ثم راح إلينا الذي عايشه بالكلمة والنغمة والخط والحركة.

ذهب أديب كبير ليتفرج على معرض الرسام ترنر، فوجد لوحة رائعة لعاصفة، فسأله: كيف رسمت هذه العاصفة؟

قال له الفنان إنه لم يفعل أكثر من أنه سافر إلى شاطئ المحيط واستأجر زورقا، وطلب من البحار أن يربطه إلى أحد الأعمدة، وهبت العاصفة، وراحت تهز الزورق بعنف، وتعلو به وتهبط، وتدفع إليه الأمواج مع البرق والرعد.

قال الرسام: وعندما أحسست أنني في قلب العاصفة، وأنني جزء منها، عدت إلى الشاطئ لأرسمها!

وبعدها لزم الفراش ودخل المستشفى ومات!!

ومن أهم صفات الفنان أن يستسلم للتجربة وأن يستغرقها حتى تغرقه.. فلا تكون مسافة بين الفنان وبين الحياة، فيكون هو وهي معنى واحدا.

قال شوقي يتحدث عن عذابه يوم مات أبوه:

أنا من مات ومن مات أنا

لقي الموت كلانا مرتين

نحن كنا مهجة في بدن

ثم صرنا مهجة في بدنين

ولو خيرنا الفنان بين العافية وبلادة الحس، وبين الفن والمرض والفقر، لاختار أن يكون صاحب الجلالة الفقير إلى الله والناس، لأنه اختار عرشا آخر يسع السماوات والأرض والنفس والعلاقات الإنسانية!

وأسطورة «فاوست» الشهيرة هي حقيقة كل فنان أيضا، فالعالم فاوست ساوم الشيطان: أن يعطيه مزيدا من العلم والحكمة خصما من عمره، أي إنه أراد أن يعرف أكثر وأن يعيش أقصر، المهم أن يعرف، ولو كان الثمن حياته، أي أن يعيش ويعرف ويستمتع مرتين: مرة بالإحساس ومرة بالتعبير!