جدل الصيف والخريف

TT

عاشت تونس في الأسبوعين الأخيرين على إيقاع جدل ساخن حول مسألة تأجيل موعد انتخابات المجلس التأسيسي، التي كانت مقررة يوم 24 يوليو (تموز) المقبل وتم اقتراح تأجيلها إلى يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

اللافت للانتباه أن كيفية تلقي خبر اقتراح تأجيل موعد الانتخابات مثلت، في حد ذاتها، مرآة عاكسة لمدى ضعف الثقة بين أطراف المشهد السياسي الجديد في تونس، إضافة إلى هشاشته وعمق الهوة بين مكوناته في مسألة تحديد أولويات مصلحة البلاد.

طبعا هذه النقاط كلها هي وليدة مخلفات ما قبل 14 يناير (كانون الثاني) 2011 التي أعاقت تحقق النضج السياسي والفهم الواقعي والعملي لمتطلبات العملية الانتخابية واللعبة السياسية ككل.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا أثار اقتراح تأجيل موعد الانتخابات هذا الجدل كله؟ وكيف يمكننا تفسير المعارضة الشديدة لحركة النهضة والحزب الديمقراطي التقدمي وغيرهما؟

لا شك في أن الجدل السياسي هو خاصية ديمقراطية ووجه من وجوه الحراك السياسي ودليل على طي صفحة الماضي ومباشرة مرحلة انتقال ديمقراطي يعلو فيها صوت الأحزاب.

غير أن هذا الجدل لم يراع نقاطا أساسية، أولاها: أن الجهة صاحبة الاقتراح، أي اللجنة العليا المستقلة للانتخابات، هي، كما يدل عليها اسمها، تتمتع بالاستقلالية، وأفراد هذه اللجنة تم انتخابهم من طرف الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة والإصلاح الديمقراطي التي تنتمي إليها الأحزاب الرافضة لتأجيل الانتخابات ذاتها.

وفي الحقيقة ظاهرة القبول بالمشاركة في اللجان وانتخاباتها ثم الانقلاب لحظة عدم القبول بقرار ما، يعتبران من بواعث القلق؛ لأنهما يدلان على عدم تحمل تبعات المشاركة وقانون اللعبة، كما أنهما ينبئان بإمكانية إحداث الأطراف الخاسرة في الانتخابات المقبلة الجدل نفسه، لكن في ملابسات أشد خطورة.

ولعله في هذا السياق من المهم الإشارة إلى أن موقف الحكومة المؤقتة من اقتراح التأجيل الذي جاء مواتيا لرفض حركة النهضة والحزب الديمقراطي التقدمي، لا يخضع للقراءة والتفسير نفسيهما؛ ذلك أنه ليس من صالح الدولة إظهار موافقتها وتمرير رسالة قد يفهم منها رغبتها في مزيد مزاولة السلطة من منظور المؤقت الذي يدوم أكثر، في حين أن رفض حركة النهضة والحزب الديمقراطي التقدمي إنما يندرج ضمن أسباب مغايرة إلى درجة أن رفضهما الملفوف بالتشنج قد منعهما من الإنصات العاقل للأسباب التي قدمتها اللجنة العليا المستقلة للانتخابات، والتي هي أسباب علمية تقنية بحتة أجبرت أعضاء اللجنة على تقديم اقتراح التأجيل من منطلق الحرص على تأمين الشروط الموضوعية الضامنة لانتخابات حقيقية تكون علامة انتقال ديمقراطي قاطع في الداخل والخارج.

وبالتالي فإن القراءة الأرجح تقول إن حركة النهضة وغيرها ترى في تأجيل الانتخابات ضربة لمصلحتها وطموحاتها وحساباتها؛ حيث إن أعضاء النهضة على وعي بهشاشة الوضع العام، وإن فرصة الاستيلاء على السلطة في ظروف الهشاشة سانحة لهم أكثر منها في الظروف القوية والصلبة والمنظمة.

ويبدو أن حركة النهضة تريد أن تستفيد من ضعف الواقع الحزبي الذي على غزارته المستحدثة التي فاقت 80 حزبا إلا أنه لا يفرز بالنسبة إلى حركة النهضة خصما قويا، خصوصا بعد حل التجمع الدستوري الديمقراطي والانطفاء الرمزي الذي عرفه، ناهيك عن انحسار شعبية بعض الأحزاب المناضلة قبل 14 يناير خارج الأوساط النخبوية.

وبالتالي فنحن أمام جدل حول كيفية اختطاف السلطة في ظروف غامضة ومرتبكة على المستويات كلها، بما فيها البعد النفسي الاجتماعي، وأكثر منه الجدل حول كيفية تأمين الشروط اللازمة لاستحقاق انتخابي يعكس عمق التغلغل في المجتمع التونسي وإشباع توقعاته من خلال برامج تستحق التصويت لأصحابها.