عندما تنسحب الدولة

TT

عاد الروائي الكوبي خوسيه مانويل بريتو إلى هافانا بعد غياب طويل. غادرها يوم كانت الدولة تحطم أكشاك بيع المأكولات، يوم ختم فيدل كاسترو خطابا من ست ساعات بالقول: «من يريد أن يرى العمال يكدحون بينما هؤلاء الباعة يربحون المال هينا؟ ما الثورة التي يمكن أن تسمح بالتجارة؟».

عندما عاد بريتو وجد الدولة تبيع البيوت إلى الناس، وتحاول أن تفكك تجربتها البالية في القمع والسجون. رأت كيف انهارت ألمانيا النازية عام 1945، وكيف انهارت صين ماو 1978، وكيف انهار الاتحاد السوفياتي 1991. وهاهي تحاول الآن أن تقلد الصين، لكي لا ينفجر كل شيء في وجهها. فلا يزال راتب الطبيب (من أكثر بلدان العالم تقدما في الطب) 20 دولارا في الشهر، بينما اشتراك الهاتف الجوال 40 دولارا. من أين يأتي الناس بالفارق؟ من مصادر شتى!

لكن بريتو لاحظ شيئا مقلقا. قضبان الحديد التي تغطي النوافذ والأبواب تزداد في الأمكنة التي تنسحب منها الدولة. يا سيدي والله العظيم أنا مع حركة 25 يناير في مصر. لكن ما يروع أنه حيث تنسحب الدولة تدخل الجريمة، كما يقول فريو. في بدايات 25 يناير كنت أكتب عن التهذيب العجيب الذي يُظهره المصريون. وذات مرة جمعني برنامج تلفزيوني في بيروت مع الدكتور عصام العريان من القاهرة، الذي يبدو أنه قارئ مداوم لهذه الجريدة. وسجلت له أنه لا يزال يقول «الرئيس مبارك» بدل «الرئيس المخلوع».

تلك كانت أياما مضت، على ما يبدو.. «مئات الشبان» انهالوا ضربا على ضابط بلباسه العسكري في ميدان التحرير لأنه حاول منعهم من تمزيق ثياب مراسلة تلفزيون و«تهريبها» في تاكسي. ضربوه ورفسوه ولم يفق إلا في المستشفى؛ حيث لا يزال مكسر الضلوع. وقال لـ«الأهرام» إنه حتى قبل محاولة القتل كانت أمه تصلي كل يوم قائلة: «يا ربي أشفق عليَّ.. خلِّيهم ينقلوا ابني من نوبة ميدان التحرير».

لن يشوه «مئات الشبان» حركة 25 يناير. لكن مظاهر التوحش هذه سوف تشوه مصر كلها وليس فقط ميدان التحرير والمعادي. وذلك ما كنت أخشاه عندما كتبت قبل أشهر أنه لم يكن يجوز أن يستقيل رئيس الوزراء أحمد شفيق أمام الروائي علاء الأسواني. الروائيون يعرفون كيف يصنعون الثورة. أما الدولة فمهنة أكثر دقة.