عشاق الرأي الآخر وأعداؤه

TT

من الفوارق الفكرية المهمة بين الشرق والغرب كرهنا لكل ما هو جديد وعشقهم له. لا يطرح أحد عندهم فكرة جديدة إلا وأسرعوا إليه، ينشرون أخبارها ويناقشونه بشأنها. هذا ما حصل عند نشر البيان السريالي والبيان الشيوعي ونظرية التطور وثروة الأمم وكتاب «كفاحي» لهتلر. وقلما يمر يوم دون أن نسمع ضجة بينهم بشأن فكرة أو نظرية أو اكتشافات أو وسيلة جديدة. يصدق ذلك في كل الميادين من الطب والعلم والتكنولوجيا والسياسة والفلسفة إلى الشعر والفن والموسيقى وحتى الملابس الداخلية والخارجية. الحقيقة أن الهوس بالجديد وصل إلى حد مزعج وسلبي إلى درجة نقلت الفكر والفن إلى عالم الموضة.

نحن في عالمنا العربي نسير بعكس ذلك. نتمسك بالقديم ونعيش فيه، ونطارد ونقمع أي شيء جديد. كثيرا ما نعتبره بدعة وكل بدعة في النار. كما مكن عشق الجديد الغربيين من الوصول إلى حضارتهم الزاهية وثروتهم البالغة وهيمنتهم على كل شيء، أقعدنا التمسك بالقديم ورفض الجديد وقمعه عن إحراز أي تقدم أو إنجاز أي إصلاح. فما هو الإصلاح الذي يتكلمون عنه سوى نبذ شيء قديم والمجيء ببديل جديد؟ لا يمكنك إصلاح سيارتك من دون استبدال جهاز جديد بالجهاز الخربان. وقد تضطر لنبذها وشراء سيارة جديدة.

هذا موضوع طالما عانيت منه في مهنتي ككاتب. فأنا أتطلع للجديد ولا أتردد في طرحه بما يجلب لي المشكلات. كتبت قبل بضع سنوات فذكرت أن الانشغال بالشعر من مظاهر التخلف وممارسات المجتمعات البدائية ويعلم الإنسان الكذب وتجاوز الواقع والحقيقة. الإنسان المتطور يمارس العلوم والفكر والفلسفة. رفضوا نشر مقالاتي. وما نشر منها جعل المسؤولين يمتنعون عن دعوتي لأي ندوة أو مؤتمر بشأن الشعر والأدب. حتى من كان معجبا بقلمي ويدعوني لمؤتمراته عن الشعر، توقف الآن عن الاتصال بي أو دعوتي لأي نشاط تقوم به مؤسسته. أصبحت مجرد جرثومة ينبغي تحاشيها.

المفروض في ندوات من هذا القبيل أن تحرص على سماع مثل هذا الطرح الجديد ومناقشته. هل حقا أن الهوس بالشعر من مظاهر التخلف ويعلم الإنسان الكذب؟ ولكن ما حدث هو أن سدنة الفكر والأدب العربي بادروا فورا إلى قمع صوت من يقول ذلك لا إلى محاورته!

وقعت في نفس المطب بالنسبة للحركة الوطنية. ففي حفل تكريمي من المنتدى العراقي قلت إن حركة التحرر الوطني هي حركة الحرامية. شرحت ذلك وقلت إن الأفندية كانوا في العهد العثماني يتنعمون بالسرقات والرشوات. جاء الإنجليز فمنعوهم من ذلك فثاروا عليهم. حصلوا على الاستقلال فعادوا إلى سابق عهدهم كما نرى الآن. ومنذ أن قلت ذلك امتنع المنتدى وكل المنظمات الوطنية عن دعوتي للمشاركة في أي ندوة. أستثني من ذلك قناة «الجزيرة» التي دعتني للدفاع عن فكرتي ودعوتي لعودة الاستعمار في برنامجها عن الرأي الآخر. أقول نفس الشيء بالنسبة للحركة الديمقراطية. دعاتها يقصدون بها الحرية لأنفسهم وقمع أي رأي يناقضهم.