سوريا.. ثورة لا تشبه أخواتها

TT

لا يمكن أن نفهم الحالة السورية التي أعتقد أنها إحدى أسوأ عمليات التغيير في العالم العربي وعورة وحساسية؛ ليس فقط بسبب حزب البعث الجاثم على البلاد منذ أمد بعيد؛ بل لأنه تحول، بفعل هذا الامتداد الزمني، إلى هوية سياسية مستقلة تم تعميمها بفعل القوة والقمع والكثير من الاستبداد في وقت كانت تلك الأدوات تأخذ طريقها إلى الشعوب دون أن يطالها توثيق الـ«يوتيوب» أو حيوية «تويتر» أو حتى حشد الـ«فيس بوك»، كما أن وضعية سوريا باعتبارها قامت بتحديد هويتها المبنية على فلسفة العروبة الشعار الرائج أيام تأسيس الدول العربية المستقلة لتوها من الاحتلال بمختلف صنوفه استطاعت أن تكسب ذلك النفس العروبي رئة «بعثية» يتنفس بها وترتبط حياة أحدهما بالآخر.

تطورات الأوضاع في سوريا تدعو للقلق الشديد الذي يتجاوز جانب حقوق الإنسان ليصل إلى ما يشبه سيناريو حرب الاستئصال، وذلك في ظل قمع النظام السوري الدموي للاحتجاجات الشعبية، الذي يعتبر الأعنف إذا أخذنا حجم الممانعة من الشعب الأعزل وتلكؤ المنظومة العربية وارتباك المنظومة الدولية برمتها بسبب مبررات في مجملها براغماتي يتصل بطبيعة النظام السوري وصلفه، وأيضا الخوف من البديل الذي قد يغير معادلات السياسة في المنطقة بسبب التماس مع القضية الأم، الصراع العربي - الإسرائيلي، حتى بات من «الضحك الذي يشبه البكا»، كما يقول العرب، أن يلاحظ المراقب ارتباكا إسرائيليا لا يوازيه أي قلق في قراءة الحالة السورية والحذر من التفاعل معها خوفا من العواقب، وهذا جزء من صورة أكبر، هي إشكالية الهوية السياسية التي كرسها النظام السوري والتي جعلته بفضل آيديولوجية البعث الشمولية أن تحوله إلى المشكلة والحل في آن واحد.

وإذا كانت هذه الخصوصية السورية فيما يتصل بالهوية السياسية في مرحلة سابقة؛ فإنها في مرحلة ما سمي ربيع الثورات أكثر تعقيدا؛ حيث نعلم أن ثمة في كل الثورات التونسية والمصرية التي انتقلت إلى مرحلة ما بعد الثورة، والثورتين اليمنية والليبية غير المنجزتين، هامشا كبيرا في تشكل المعارضة وتوحد صفوفها واختيارها لمنطقة رمزية كساحة التغيير أو ميدان التحرير، وحتى في المناورة مع السلطة، بينما يغيب هذا كله في الحالة السورية التي تحول فيها الشعب إلى ضحية، حتى أولئك الذين لا يشاركون فعليا في المظاهرات والاحتجاجات لاعتبارات الخوف هم ضحايا محتملون لتلك العبثية والفوضى الأمنية اللتين بلغتا أوجهما مع ضحايا من داخل قوات الأمن أصبحوا بشكل أو بآخر وقودا سياسيا يتم به تأجيج الوضع هناك.

على مستوى آخر، فإن الثورات كلها، عدا الحالة السورية، كانت تستمد قوتها من المعارضة في الداخل والخارج، ومن الاستناد، ولو بدا رمزيا، إلى شخصيات اعتبارية في النظام السابق من وزراء ومسؤولين وقياديين سياسيين أو من خلال التقوِّي بانشقاق الجيش أو حتى حياده، وكلا الأمرين غير موجود في الحالة السورية، ويبدو أننا لن نشهده على المستوى القريب، وهذا لا يدل على تماسك النظام، كما يروج له عادة؛ بل يدل على مدى قدرته على تحويل التنوع الطبيعي في المؤسسات السياسية والعسكرية وحتى المجتمع في كل النماذج حتى الدول التي توصم عادة بالاستبداد إلى واحدية حزبية بالفعل أو القوة، كما يقول أهل المنطق.

في اعتقادي أن الحالة السورية سيطول أمدها في ظل معطيات واقعية كثيرة تبدأ بقدرة الشعب السوري المذهلة، حتى الآن، على الحفاظ على سلمية الاحتجاجات، وفي ظل ازدياد قوة ووتيرة وسطوة النظام في قمع معارضيه بأشكال وصور وسيناريوهات متعددة، لكن الأهم في ظل صمت الخارج، خاصة المجتمع الدولي الذي ما زال يتلكأ في التعامل مع الملف السوري بشكل جاد، الأكيد أننا لا ندعو هنا إلى تدخل عسكري، ليس هذا من وظيفة التحليل السياسي، لكن حتى على مستوى أقل من التدخل العسكري هناك الكثير من الجدية يمكن للمجتمع الدولي أن يرسله إلى النظام السوري عبر أوراق الضغط الكثيرة، ولو من خلال إيجاد مخرج سياسي أشبه بعملية جراحية خطرة، لكن تضمن، على الأقل، سلامة الجسد السوري، الذي لا يمكن له أن يصمد طويلا في ظل أجواء غير صحية كالتي يعيشها، الحالة الوحيدة التي يمكن أن تتغير فيها الحالة السورية الاستثنائية تكمن في احتمالات بعيدة الوقوع كانشقاق الجيش بسبب تزايد حرجه بالتورط بعمليات قتل جماعية، أو احتمال تضخم عدد الضحايا إلى درجة تجعل من المجتمع الدولي يشعر بالحرج ذاته في التورط على السكوت عن حال كهذا، وكلا الأمرين يتطلب وقتا طويلا يجعله أقرب إلى مفهوم الاحتمال منه إلى الإمكان.

[email protected]