مقال نهاوند

TT

مقال ديفيد إغناتيوس عن ليبيا درس في كتابة المقال في فترة الثورات. بعد الثورات العربية تفجرت قريحة الكتابة عند العرب، ولكن كثيرا منها ضل سبيله، فقرأنا كثيرا من المتشابهات، وفي المقالات، كما في الموسيقى، لا بد أن يدخل القارئ أو المستمع في النغم، حتى لا نخلط بين فريد الأطرش وشعبان عبد الرحيم. فللمقالات تنويعات كتنويعات مقامات الموسيقى لو أحسنا صنعا، وحتى نساعد القارئ على الاختيار بين الجيد والرديء. ولهذا أركز على هذا المقال الذي نشرته «الشرق الأوسط» للكاتب الأميركي اليوناني الأصل، ديفيد إغناشيس، (هذا هو اسمه الصحيح كما ينطقه ديفيد بنفسه)، المعنون «ليبيا: حقل ألغام من أخطاء حلف شمال الأطلسي والسياسة القبلية» بتاريخ 16 يونيو (حزيران) 2011، تحدث فيه عن ورطة انشقاق وزير الخارجية الليبي موسى كوسا (رئيس المخابرات الليبية السابق أيضا، الذي شارك في معظم عمليات ليبيا السرية)، والذي هرب إلى فرنسا أولا، ثم بعدها إلى بريطانيا حتى استقر به المقام في قطر. ويساوي هذا المقال في مقامات الموسيقى مقام بياتي بتفريعاته، الذي تتحرك فيه أصوات رائعة كصوت وموسيقى فريد الأطرش ومعظم أغاني فيروز. وبالطبع هناك مقامات عربية أصيلة، مثل السيكا والرست الذي لا يتبعه المطربون والملحنون، بل يتبعه من يجودون القرآن الكريم ويتلونه أيضا.

أعرف أن خلط الموسيقى بالكتابة أمر غريب، ولكن ما أصبو إليه هنا هو أن تصل كتابتنا إلى شيء أقرب إلى تنويع المقامات في الموسيقى، حتى نتميز، ليس الغث من السمين، بل الاختلاف في الرؤية المنطلقة من معطيات معلومات مغايرة، بدلا من «الدش» الذي نراه كل يوم عن الوضع الحالي. ومن هناك تكون بداية درس إغناشيس.

الدرس الذي قدمه إغناشيس في كتابة المقال الصحافي هو أنه تتبع قصة محددة، وتبدو صغيرة بتواريخها وشخوصها وفنادقها، ثم غزل منها مقالا، وتوصل من خلالها إلى تعميمات عن عمليات الناتو في ليبيا، وتوجه السياسة الأميركية تجاه ليبيا، إذا ما أخذنا في الاعتبار تلك المعطيات المحددة. هكذا يُكتب المقال وليس كلام إنشاء مرصوصا إلى جوار بعضه يدعي تفوقا أخلاقيا أو غيره، المقال تكملة للأخبار ينورها ويضيء جوانبها المظلمة بالتحليل، لكي يصل القارئ إلى تشكيل رأيه بنفسه، دونما أن نفرض عليه آراءنا، وهذا ما فعله إغناشيس في مقاله.

يتحدت إغناشيس أولا عن أموال القذافي الباقية في ليبيا، وتقدرها مصادره بعشرة مليارات دولار، ويتحدث عن لقاء عبد الله السنوسي، مبعوث القذافي، مع ممثل لإدارة أوباما، وعن نوعية الرسالة التي يحملها السنوسي، التي تقول إن القذافي سيتخلى عن السلطة ويعمل التكنوقراط في نظامه مع المجلس الانتقالي بغية تشكيل حكومة انتقالية.

يتحدث أيضا عن لقاء موسى كوسا في 10 مارس (آذار) خلال اجتماع أديس أبابا مع ضابط المخابرات الفرنسي، ثم لقائه مرة أخرى بنفس الضابط يوم 29 مارس في فندق «رويال» بجزيرة جربة التونسية. أرقام وتواريخ محددة وأماكن محددة ورجال بعينهم، هذه هي المعلومات التي يبدأ بها الكاتب فرضية مقاله. ويصل في نهاية مقاله إلى أنه لو كانت هناك صفقة في رسالة القذافي لواشنطن، ربما تكون إجابة واشنطن بنعم، وهذا كلام ذو مغزى عميق.

هكذا يكتب المقال؛ سواء تعلق الأمر بليبيا أو بسوريا أو باليمن، أو بمصر أو تونس. معلومات محددة يبنى عليها بشكل محدد وبمنهج واضح لإضاءة النقاط المظلمة عند القارئ. فكما في الموسيقى لكل نغم جواب وقرار، ولكل جواب وقرار مشتقاته وتنويعاته، كذلك يجب أن تكون مقالات الكتاب. فإذا كان مقال أغناشيس من مقام بياتي، أو نهاوند، فليس بالضرورة هو الأصل، حتى لا يفهمنا الإخوة الشباب خطأ، هناك تنويعات أخرى، ولكن مقال إغناشيس هو كما مدخل أغنية «الربيع» لفريد الأطرش، ولكن لا يغني كل المغنين كفريد الطرش أو فيروز من مقام بياتي، فهناك من يغني من مقام رست، أو رست أشوري، أو رسن الرست، كما يجود من هذا المقام أحيانا الشيخ محمد صديق المنشاوي في بعض الآيات.

وإذا كان ديفيد إغناشيس الذي كتب المقال المبني على المعلومات المحددة وتصل منها إلى نتائج، فإن هناك كتابا قد يختارون طرقا أخرى، أو يكتبون بطريقة أخرى، وهي ليست أقل تميزا من كتابة إغناشيس، الفارق هو أنهم يكتبون من مقام مختلف، ولكن في كل الحالات يجب أن يكون المقال ممنهجا حسب مقام معين. فإذا اعتبرنا ما كتبه أغناشيس من مقام بياتي، فليس عيبا أن يتبع أحدنا مقام السيكا، الذي أتت منه أروع الألحان التي سمعناها في «الأطلال» لأم كلثوم، أو «رقصة الهوانم» للقصبجي. المهم هو الالتزام بالمقام، وتنويعاته، دونما خروج شاذ.

ما أراه في كتابتنا عن الثورات العربية، أحيانا ينتمي إلى مقام واحد، إن أجاد الكاتب، وأحيانا أخرى يحاول البعض خلط الحجازي بالفارسي، ولا ينجح، وهذه أمور كان ينجح في توليدها محمد عبد الوهاب في الموسيقى لأنه ملم بالقواعد الأساسية، ويعرف تكوين وتوليد الخلطة الجديدة. لكن ليس من المعقول أن يبدأ موسيقي هاو بهذا النوع من اللعب على النغم، إلا إذا كان ملما بالقواعد الأساسية للنغم العربي الأصيل. ما نراه اليوم هو تراجع المعلمين، وظهور طبقة جديدة من الكتاب الثوريين، وهذا ليس عيبا، ولكن العيب هو أن الثوري في الموسيقى يجب أن يتقن أولا ما يثور عليه، كي يبدأ نغما جديدا، ولكن حالنا اليوم هو أننا أمام كتابات تخلط نغم الجاركاه بالمايا أو تخلط الرست بالدوكاه، على طريقة السلم الموسيقي الغربي، مع أن السلم الموسيقي والمقامات أمور مختلفة تماما.

الثورة تبدأ بمعرفة ما نثور عليه حتى نغيره، حتى نبني معمارا جديدا؛ سواء في الكتابة أو الموسيقى أو كليهما معا.