ندوة دولية بجامعة ابن الطفيل

TT

أتيح لي أن أحضر مؤخرا ندوة هامة عن العلاقة بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية: الواقع والمأمول، وقد نظمتها جامعة ابن الطفيل في مدينة القنيطرة المغربية، بالتعاون مع مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان بقطر. وقد دعي إلى هذه الندوة الكثير من الباحثين والباحثات العرب والأجانب. وكانت الدكتورة زهور كرام، رئيسة مختبر اللغة والإبداع والوسائط الجديدة في جامعة ابن الطفيل هي «الدينامو» المحرك لأعمال المؤتمر إلى جانب الدكتورة الرائعة مريم آيت أحمد، رئيسة المؤتمر. وأثبتت المرأة المغربية بذلك أنها في طليعة التغيير والتجديد بعد أن أعطاها الملك المستنير محمد السادس كل حقوقها وفتح لها أبواب الإبداع والقيادة على مصراعيها من خلال المدونة الشهيرة. فالمرأة في المجتمع المغربي أصبحت تطور المجتمع جنبا إلى جنب مع الرجل وعلى قدم المساواة.

لقد تناول المؤتمر الكثير من المحاور الفكرية التي تشغل المثقفين العرب اليوم من مثل: المعرفة والبناء الحضاري للعلوم. وقد عالجه المفكر المغربي الدكتور محمد مصطفى القباج بكل تمكن واقتدار. فقد دعانا إلى إقامة علاقة جديدة بين المعارف الدينية والمعارف العقلية من أجل تجسير الهوة الفاصلة بين الثقافة الدينية والثقافة العلمية؛ فهناك انفصال كامل بينهما في عالم الحداثة المادية البحتة، وهذا غير مستحب. انظر الأمراض التي تعاني منها الحضارة الغربية بسبب إغراقها في الماديات الإلحادية وبترها لكل ما يتعالى على الماديات. أما منظور الأستاذ القباج فيؤدي إلى تحقيق التوافق بين القيم الروحية والقيم المادية وإعادة ذلك التوازن المأمول والمفقود للإنسان المعاصر، وهذا أقرب ما يكون إلى خصوصية الحضارة العربية الإسلامية التي كانت في عصرها الذهبي وسطية أبعد ما تكون عن الشطط والغلو في هذا الاتجاه أو ذاك وأقرب ما تكون إلى التوفيق بين روحانية الدين وعقلانية الفلسفة. انظر عظماءنا القدماء من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد الذي ألف كتابا كاملا للتوفيق بين الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية. هناك مداخلات أخرى كثيرة لا أستطيع التوقف عندها كثيرا للأسف؛ نذكر من بينها الدين في الخطاب الفلسفي المعاصر.. هل يمكن للفلسفة تقديم خطاب معرفي عن الدين؟ وقد ألقاها الدكتور عبد الله السيد ولد أباه، أستاذ الفلسفة في جامعة نواكشوط بموريتانيا. وهناك مداخلة لفتت الانتباه للدكتور أحمد شحلان أستاذ الدراسات الشرقية بجامعة محمد الخامس، فقد أوضح لنا فعل الثقافة الإسلامية في الفكر اليهودي، وتلاه تلميذه الدكتور إدريس اعبيزة بمحاضرة قيمة جدا عن بناء المعرفة؛ قراءة في الفكر اليهودي.. وفهمنا منهما أنه لولا تأثير الحضارة العربية الإسلامية لما تشكلت قواعد اللغة العبرية ولما تشكلت فلسفة يهودية أو فكر يهودي عقلاني في الأندلس. ولا يفوتني الإشارة إلى مداخلة الدكتور معتز الخطيب عن المعرفة الإسلامية؛ قراءة في السياقات والتحولات، فقد كشف لنا أن الجابري أخذ نظريته الأساسية في البيان والعرفان والبرهان عن القشيري؛ وبالتالي فهو ليس مبتدع الفكرة على عكس ما نظن، وإن كان قد وسعها وأعطاها أبعادا جديدة.

أعتذر لأني لا أستطيع التحدث عن بقية مداخلات المؤتمر الغنية والمكثفة جدا؛ فقط أود الإشارة إلى أهمية المداخلة التي ألقاها الدكتور طارق حجي عن دور التعليم الديني في نشر القيم البناءة، المقصود التعليم الديني المستنير بالطبع، فقد كشف فيها عن جذور الخلل العربي الإسلامي قائلا بأنه يعود إلى القرن الثاني عشر وإغلاق باب الاجتهاد وموت الفلسفة والفكر النقدي الحر؛ وبالتالي فالتعليم الديني السائد حاليا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية مقطوع عن الحداثة الفلسفية والعلمية في معظمه. وهنا يكمن أحد الأسباب الرئيسية للمأزق العربي الراهن. حقا لقد وضع الدكتور طارق حجي يده على الجرح بكل خبرة وألمعية.

أخيرا سوف أقول بأن الفكرة التي حاولت تمريرها في هذا المؤتمر بسرعة شديدة هي التالية: لكي نقيم علاقة صحيحة بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية ينبغي أولا أن نحدد تخوم كل واحدة منهما وطبيعتها؛ فالمعرفة الدينية قائمة على التسليم بجملة من المعتقدات واليقينيات التي لا تناقش ولا يمكن التفاوض عليها.

أما المعرفة العلمية فقائمة على التجريب والبرهان والنقاش المستمر والتصحيح والمراجعة دون توقف. والخلل ينتج عن تعدي المعرفة الدينية على المعرفة العلمية أو العكس؛ فمثلا عندما تعدى الكهنة على مجال غاليليو الفلكي – الفيزيائي الذي يجهلونه نتج عن ذلك تجاوز خطير لصلاحياتهم وكفاءاتهم. وقد اعتذر الفاتيكان عن هذه الغلطة الشنيعة بعد عدة قرون وأعاد الاعتبار لغاليليو. ومعلوم أن هذا الأخير قال لهم العبارة الشهيرة: إن الكتب المقدسة تعلمنا كيف نذهب إلى السماء ولكنها لا تعلمنا كيف هي مصنوعة السماء! بمعنى أنها تهذب أرواحنا وأخلاقنا وتهدينا وتقودنا إلى الجنة إذا ما استمعنا إليها، ولكن ليس من مهمتها الكشف عن قوانين الكون الفيزيائية والفلكية والطبيعية؛ هذه مهمة العلم لا الدين، وبالتالي فمن العبث أن نبحث في النصوص الدينية الكبرى عن علم الذرة أو الطب أو الفلك أو النظريات الحديثة كما يفعل بعض السذج. هذا خلط للأمور بعضها ببعض ولا يؤدي إلا إلى سوء التفاهم وتشويش العقول. المعرفة الدينية لها مجالها والمعرفة العلمية لها مجالها وهما متكاملتان لا متناقضتان؛ إذا ما فهمنا الطبيعة الخصوصية لكل منهما. وقلت بأن الفلسفة لا تؤدي إلى الإلحاد بالضرورة، كما يتوهم جمهور المسلمين، على العكس فإنها تؤدي إلى تعميق الإيمان وفهم الدين بشكل متبصر ومستنير. وحضارتنا العربية الإسلامية لم تبلغ ذروتها وتشع على العالم إلا عندما كانت العلوم الدينية والفلسفية والطبيعية مزدهرة ومتعايشة ومتفاعلة في ما بينها. كانت قائمة على ركيزتين اثنتين: الدين والفلسفة. وعندما انهارت إحداهما، أي الفلسفة، انهارت حضارتنا ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن.