يشبه أحد الأصدقاء الأعزاء وهو طبيب أسنان مرموق، الأحداث الثورية في العالم العربي بحالات مختلفة من علل وخلل الأسنان، فهو يرى أن النظامين في مصر وتونس أشبه بالأسنان «اللبنية» وهي الأسنان الخفيفة والهشة التي ما إن تتخلخل يسهل سقوطها وبالتالي خلعها في زمن سريع وبأقل قدر من الآلام والآثار السلبية، وأما اليمن فهو تسوس في اللثة والأسنان مما سبب التهابات. نعم تتخلخل «السن» ولكن الموضوع بحاجة لعلاج جانبي لضمان نجاح الخلع. وليبيا هي خلع ضرس عقل؛ الألم أكبر والوصف أعنف والضرر أوضح. أما سوريا فالمسألة أكثر تعقيدا فهناك خلل وضرر أصاب العصب نفسه وأثر على الضرس واللثة والفك ونخر في قلب الضرس وأصبح بالتالي يستدعي تخديرا كاملا وعملية جراحية. والتشخيص لا يبدو بعيدا عن الواقع لأنه يعكس كل حالة من حالات الدول التي وقع عليها الاضطراب وعمت فيها الثورات، وجاء هذا الوصف قبل سويعات من خطاب الرئيس السوري بشار الأسد لشعبه، وهي الكلمات التي كان ينتظرها السوريون، وكل محب لسوريا يحزنه ما يراه من إراقة للدماء وترويع للناس بشكل مفزع ومرعب. وما يحدث اليوم في سوريا تحول إلى قضية رأي عام عالمية كما يتضح من الأخبار المنشورة والتصريحات السياسية لكل متابع.
التاريخ السوري العظيم في الخمسينات والستينات ولد تجارب لافتة للعمل الحزبي الوطني الشريف الذي كان يراعي الصالح العام، فكان الحضور المبهر لحزب الشعب بقيادة رشدي بك كيخيا، وكذلك الحزب الوطني بعناصره المميزة الكثيرة وجاء إلى مناصب الحكم في رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس الشعب والوزارات المختلفة شخصيات هائلة وكبيرة مثل ناظم قدسي وشكري القوتلي وأديب الشيشكلي وهاشم الأتاسي وفارس الخوري ومأمون الكزبري وجميل مردم بك وعبد الرحمن العظم وغيرهم من الفطاحل من الساسة. وكذلك كانت الحياة الصحافية في أوجها وكان السجال البديع في التنافس بين صحيفة «الأيام» بقيادة نصوح بابيل وصحيفة «القبس» بقيادة نجيب الريس وكانتا معروفتين بالرصانة والدقة ولكن بالجرأة الوطنية أيضا.
رأس المال السوري كان متألقا ونافذا في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وانتشر بقوة حول العالم وكان رأس المال السوري مضربا للأمثال بشكل لافت، وأغلب قصص النجاح في لبنان كان خلفها شركات سورية ورأس مال سوري كما هو معلوم للجميع. كانت سوريا واحة للتعايش الحضاري بين المسلمين والمسيحيين واليهود والأكراد والأرمن واليزيدية والإسماعيلية والعلوية والدروز والشيعة والسنة بنجاح أكثر من أي دولة أخرى. فلقد كانت سوريا دولة دينية ولكن بتعايش علماني سلمي مثالي وتوازن بديع.
كان للقضاء هيبته ووقاره وكانت نقابة المحامين مضربا للأمثال في وطنية المنتمين إليها وجدارة من يعمل بها وهي فرخت جهابذة ومرجعيات في العديد من المسائل القانونية. حتى التعليم لقي رواجا مبهرا وكانت جامعتا دمشق وحلب مضرب الأمثال في تخصصات الطب والهندسة والتجارة والحقوق مع عدم إغفال الوجود المهم للمدارس الفرنسية والإنجليزية والأميركية والإيطالية التي كانت تقدم علوما مميزة بمعايير ومقاييس استثنائية.
هذا هو الإرث السوري الذي يغيب اليوم عن ذاكرة الرئيس السوري بشار الأسد ومن معه، هذا هو ما يطلبه كل سوري حر وشريف، وهو تحديدا العودة إلى المستقبل، سوريا خير أمامها كان خلفها وهي تطلب العودة إلى ما كانت عليه الأمور من كرامة وعدالة وحرية واستقرار وهذه المطالب ليست بالرجعية كما تصورها الأصوات المنافقة ولكنها حركة تصحيح لأخطاء وقعت. محبو سوريا كثر ويخافون مما يحصل لها وما قد يحصل لو لم يتم «تكريم» المواطن السوري ومنحه الحق في الاختيار مثله مثل جده في يوم من الأيام.
الدكتور بشار درس في الأساس طب العيون وهو يعلم أن المياه البيضاء تعكر الرؤية مهما كان بياضها واليوم هناك «غمامة» تعيق الرؤية السياسية للمستقبل السياسي السوري وتؤخر كثيرا تحقيق الإصلاح المطلوب، وكل الخوف من التأخير لأن التأخر قد يعني العمى الكامل أو التدخل الجراحي.