جاك غودي وسرقة التاريخ

TT

جاك غودي أحد أبرز علماء الاجتماعيات خاصة علم الإنسان، وهو حاليا في الثالثة والتسعين من العمر. ورغم كبر سنه لا يزال نشاطه الفكري والأكاديمي مستمرا. فقد أرسل قبل أشهر قليلة فقط كتابا جديدا إلى المطبعة، كما عاد مؤخرا من زيارة أكاديمية للولايات المتحدة حيث ألقى العديد من المحاضرات.

جلست أستمع إليه في غرفته في كلية سانت جونز في جامعة كامبريدج محاطا بمئات الكتب والمراجع. لا يزال الرجل سريع البديهة متوقد الذهن ملما بكل ما يدور حوله في الفلك الأكاديمي والعلمي، تتدفق غزارته العلمية وهو يحدثك عن آخر اهتماماته وأبحاثه. هنأته بمنحه شهادة بناء الجسور لعام 2011 التي منحتها له جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا، وتحدثنا عن استمتاعي الشديد بقراءة كتبه، خاصة كتاب «سرقة التاريخ» (2006) وآخر كتاب صدر له في العام الماضي بعنوان: «نهضات.. النهضة الواحدة أم نهضات عدة».

ركزت العديد من كتابات البروفسور غودي على سرقة دور وتاريخ حضارات عديدة تمتد من أفريقيا إلى الصين واليابان مرورا بالحضارة الإسلامية، ودور هذه الحضارات في النهضة الأوروبية. وهو يبين كيف أن كثيرا من قيم ومثل وإنجازات الحضارة الأوروبية يعود الفضل فيها وإلى حد كبير إلى إسهامات وأفكار وإنجازات حضارات سبقتها. وينتقد غودي الإهمال المتعمد لمؤلفات الحضارة والتاريخ لهذه الإسهامات، والتي لولاها لما قامت الحضارة الغربية. لقد بينت هذا في مقال سابق وبتفصيل أكثر، ثم أشرت بشكل عاجل إلى أن التعليم وحده هو الذي يمكن من خلاله سد هذه الثغرة التي أدت إلى صراع وانفصام وتمييز وتهميش وعنصرية.

إنّ الاهتمام بالتعليم بوصفه وسيلة لإحداث تغيير مؤثر في معالجة العنصرية والخوف من الأجانب والتمييز ضدهم ومعرفة خلفياتهم الثقافية وإسهاماتهم الحضارية عبر العصور، وبشكل عادل وموضوعي، ليس أمرا جديدا، ففي عام 1998 نشرت الجمعية الوطنية لعلماء النفس التربويين في المملكة المتحدة تقريرا بعنوان «طرق إلى التسامح: تنوع الطلاب»، وضمّ مجموعة من الأبحاث والأوراق التي تدعو المدارس إلى تشجيع التسامح والاعتراف بتنوع الطلاب. كما طرحت وثيقة «إعلان برلين: خطة عمل للمستقبل» (1999) برنامج عمل لتطوير وتحسين التعليم عبر الثقافات والمجتمعات المختلفة، بما في ذلك تغيير الموقف تجاه الثقافات الأخرى، ودراستها وفهمها، إضافة إلى العمل على إزالة القوالب المتوارثة في الكتب المدرسية، كما نصحت بإدخال دراسة الأديان والأخلاق التربوية في كافة المدارس الحكومية والخاصة.

وجمع بيتر بيتلمان وفون كومانس أوراقا مختارة من وثائق ذات صلة بموضوع التعليم والتعددية؛ تم نشرها عام 1999 تحت عنوان «القواعد الدولية للتعليم المتبادل بين الثقافات»، بما فيها عدم التمييز العنصري، وحقوق الإنسان. وسبق لهذه الوثائق أن تبنتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة واليونيسكو ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي والمجلس الأوروبي. وفي مقدمته لهذه النشرة، التي وُجهت إلى صُناع القرار والمعلمين والتربويين، كتب البروفسور ثيو فان بوفين مؤكدا وبشدة على أهمية التبادل الثقافي بين الدول والمجتمعات، ومدى دوره في إزالة كافة مظاهر العنصرية والتعصب ورهاب الأجانب وعدم التسامح، مما يجب اعتباره من أولويات الحكومات والمنظمات الدولية، كمنظمة الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي. وركزت هذه الوثائق التي أجمعت في تلك المطبوعة على أهمية تدريس ونشر الاحترام لثقافات الآخرين وقيمهم وإسهاماتهم في كافة مراحل التدريس، بدءا من المرحلة الابتدائية فصاعدا، وتعزيز وتشجيع جو التفاهم الفعّال بين الجاليات المختلفة.

وهناك تقرير هام آخر بعنوان «نحو مراجعة لمناهج التعددية والمواطنة» (2007) أعده السير كيث أجيكبو وزملاؤه ونشر في المملكة المتحدة. ويوصي التقرير بأن تقوم كلّ مدرسة، خلال خمس سنوات، بعمل ملموس في ترسيخ مهارات المشاركة في ديمقراطية فعّالة وشاملة تعترف بالاختلافات الثقافية والتنوع، وتتفاعل وتتعامل معها. وقدّم التقرير توصيات هامة أخرى ذات علاقةٍ بالموضوع، خاصة في تطوير تعليم مفهوم المواطنة، إلا أنّه أوضح الصعوبة المستمرة بسبب عدم توفر الموارد الكافية، ولا سيما التأهيل الصحيح للمدرسين والمربين، وهذا وحده يشكّل نقصا خطيرا لمعالجة الموضوع. كما يقترح التقرير على وزارة التعليم والمهارات البريطانية أن تشكل هيئة لمراجعة الموارد البشرية والمادية المتوفرة حاليا لهذا الموضوع.

ومن بين الوثائق والدراسات المهمة الأخرى «تقرير تحالف الحضارات» الذي أعدّته مجموعة رفيعة المستوى ونشر في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2006. ويقترح هذا التقرير استهداف التعليم كوسيلة فعالة نحو إعداد نموذج للاحترام المتبادل بين الديانات والمجتمعات والأجناس. ومن أجل معالجة هذا الموضوع بطريقة فعلية ومنسجمة يؤكد التقرير أنّ الأنظمة التعليمية تواجه اليوم تحديا يتمثّل في إعداد الجيل الناشئ لعالم متغير تتداخل وتتواصل فيه العلاقات والمصالح المشتركة بين الناس بشكل يهز الهويات الفردية والجماعية، ولهذا كانت هناك حاجة لإيجاد توازن ووعي بالقضايا العالمية، وفهم الثقافات والمجتمعات الأخرى واحترامها والاعتراف بإسهاماتها الحضارية والتاريخية والثقافية، عن طريق إدراك القيم والمفاهيم المشتركة.

ومن أبرز مؤيدي هذه الرؤية تقرير بعنوان «من البداية تماما» تم نشره في يونيو (حزيران) 2006 من قبل فريق من الباحثين البريطانيين في معهد فوكاس للحقوق والتحوّل الاجتماعي. ويؤكد التقرير بشدة على الحاجة إلى التعامل مع المواقف والتصرفات العنصرية في سن مبكرة: في دُور الحضانة، وروضات الأطفال ومراكزهم، وفي المدارس الابتدائية، كما يؤكد على الأثر الإيجابي لهذا العمل المبكر في مجابهة العنصرية في المجتمع ككل. ويدعو التقرير إلى اعتماد استراتيجية وطنية عبر كافة المستويات الحكومية لتبني فكرة المساواة بين الأجناس في سنوات مبكرة. كما يؤكد أن هذه السنوات المبكرة هي مرحلة التلقي المكثف لدى الأطفال، وهي أهم وأخطر مرحلة في تربيتهم وتكوينهم وصياغة أفكارهم وشخصياتهم، وتوفر فرصة ثمينة للأطفال ليبدأوا بتعلّم كيفية احترام بعضهم بعضا، وتكوين الرأي الإيجابي عن الذين يختلفون عنهم أو الذين يشبهونهم.

إنني على قناعة تامة بأن معالجة الجهل التام بالآخر وتاريخه الحضاري والثقافي في مراحل التعليم المبكرة هي الطريقة الوحيدة ذات البعد الاستراتيجي لإحداث تأثير فعال وطويل الأمد. إنّ مفهوم المواطنة والتعايش والتعددية والاحترام المتبادل والقيم المشتركة؛ يتم تدريسها وفهمها بطريقة أفضل عن طريق دراسة ومعرفة وفهم الآخر، وترسيخ هذا الفهم في أذهان الناشئة وقلوبهم من بداية مراحلهم التعليمية، بدلا من محاولة إحداث التغيير في مرحلة حرجة وصعبة في حياتهم؛ فما يترسخ في العقل خلال تلك المراحل الأولى من آراء وأفكار لا يمكن – على الأمد القصير – تغييره وإحلال قواعد سلوكية جديدة محلّه، وأقصى ما يُرجَى في هذه الحالة هو وضعُ حد للسلوك الذي تم تلقيه مسبقا، ولهذا فإنّ الأفكار المتحجرة والمتجذرة والمتأصلة لدى الكُتاب والمحررين والمذيعين والروائيين وأصحاب القرار والأكاديميين، على سبيل المثال، لا تكاد تتأثر بالدعوة إلى التفاهم وعدم الانحياز والموضوعية والتعايش والاحترام المتبادل وفهم الآخر بشكل متجرد.

في خطاب أمام طلبة جامعة ييل الأميركية في 11 يونيو 1962 قال الرئيس جون كينيدي: «إن ألد أعداء الحقيقة ليس الكذب المتعمد والمضلل والمختلق بل الأسطورة المتواصلة والمقنعة وغير الحقيقية. إننا في أكثر الأحيان نتمسك بقوة بروسمة أجدادنا. نحن نخضع كافة الحقائق إلى مجموعة من التأويلات المصطنعة كما أننا نستمتع بالراحة التي نستمدها من إبداء الرأي دون أن نخوض مشقة التفكير». إن التفكير بطريقة انتقادية لا يأتي طبيعيا أو عفويا، وخاصة مع مراعاة التزايد الرهيب للمعلومات الخاطئة والمشوهة والمتحيزة المتوافرة على الساحة، ولكن هذا النوع من التفكير الانتقادي الموضوعي يحتاج إلى التدريب المبكر حول قراءة ما هو خارج المحيط، وإدراك ضرورة البحث عن مصادر بديلة، وكيفية الحصول عليها، وكيفية الوقوف على الآراء المتعارضة المختلفة قبل تحديد موقف، أو اتخاذ قرار، أو تكوين فكرة حول قضية معينة.

إن عدم توفر الوقت لدى الناس في الأيام الراهنة، أو عدم الرغبة لديهم، أو ربما قلة خبرتهم، ليست هي وحدها الأسباب في عدم بحثهم عن الحقيقة والاكتفاء بتلقي الأخبار والأفكار دون تمحيص أو تدقيق أو نقد، فقد تعوّد الناس في هذه الأيام على طلب الحقيقة وتلقيها بشكل سريع، تماما على طريقة «وجبات الأكل السريعة». وهذا الوضع غريبٌ وخطيرٌ جدا، ويبين أننا لا نعيش في عصر التمييز العقلي والفكري والثقافي، فالتفكير الانتقادي أو الوعي العقلي مهارةٌ يجب تعلمها وتنميتها عن طريق التعليم منذ بداياته، ثم تعزز هذه المهارة عن طريق الممارسة الواقعية.

وخلاصة القول: يجب أن يكون ما ذكر آنفا حول التعددية، واحترام الاختلاف والتعايش مع الآخر، وفهم خلفيته الدينية والثقافية والحضارية، وإسهامات الشعوب المختلفة عبر العصور في النهضة التي يشهدها العالم، مما أوصت به الدراسات والوثائق والأبحاث التي ذكرت أعلاه، جزءا أساسيا من الأنظمة التعليمية الغربية، ويجب إدراجها في المناهج المدرسية من أجل خلق فهم أفضل وعلاقات إيجابية بين الجاليات والشعوب المختلفة.

إن الممارسات التي تؤدي إلى تشويه وسرقة تاريخ الآخر، وتهميشه وإنكار دوره التاريخي والحضاري، هي أبشع أنواع العنصرية، وقد أدت إلى تحيز معرفي خطير تتوارثه الأجيال ليس فقط في دراسة التاريخ ولكن في كافة العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ حيث تحل الأسطورة والخرافة محل التعامل العلمي الموضوعي والمنصف. هذه السرقة وهذا التحيز الصارخ لا بد من معالجته وهذا ما يحاول البروفسور جاك غودي، إضافة إلى مفكرين وأكاديميين آخرين، القيام به.

كتابا «سرقة التاريخ» و«نهضات» من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعا وفائدة، وآمل أن تسعى بعض دور النشر إلى ترجمتهما ونشرهما باللغة العربية لأهميتهما الكبيرة ولفائدتهما للقارئ العربي.

* رئيس جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في المملكة المتحدة