حروب الساحات

TT

بدأت بدعة التحارب بالحشود في بيروت على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عندما نزل نحو مليون شخص إلى ساحة الشهداء يرفعون يافطات معادية لسوريا، فنزل في اليوم التالي عدد مماثل يرفع شعار «الولاء لسوريا». بعدها راقت الفكرة للناس فلجأت إلى الساحات تعبر عن رأيها في بلاد يعتبر فيها الرأي خيانة، والمطالبة بالحرية عملا صهيونيا. بعد الميادين المتنافسة في صنعاء، قامت الآن الميادين المتقاتلة في سوريا. تحشدون مليونا فنأتي بمليونين.

كان الرئيس بشار الأسد أول من سخر من جماهير «14 آذار». وقال في خطاب أمام مجلس الشعب ضاحكا، إن ألعابا تصويرية جعلت الحشود تبدو أكبر مما هي عليه. وشرح ذلك تقنيا. لكن الكاميرات انتقلت الآن إلى ساحات دمشق تحاول أن تتسع للمؤيدين، بينما على المعارضين الاكتفاء بالهواتف الجوالة السرية لنقل احتجاجاتهم.

القضية ليست في الساحات ولا في الحشود. فهي لم تؤد إلى شيء في إيران، ولم تفض إلى المؤسسات في مصر وتونس، ولم تحسم للرئيس أو ضده في اليمن. فحيث لا تستطيع الناس أن تقول رأيها في بقاء النظام أو ترحيله، كما في تونس ومصر وسوريا وليبيا، لا فائدة من التنافس بحرب الكاميرات. البديل هو رفع النقاش الوطني من الساحات إلى دور العقل والمنطق والمحبة. وأن يقبل الحاكم بأن هناك مشكلة كبرى في البلد، سواء كانت المظاهرة من مليون أو من مليونين. وحل المشكلة لا يكون بإطلاق ذوي الحناجر الخشنة على المعارضين، بل بإرسال ذوي العقول والقلوب يجمعون الشكاوى والمظالم والمرارات، ويرفعون الخطط حول رفعها عن صدور الناس. في مثل هذه الساعات، لا يحتاج النظام إلى مؤيديه وهتافيه وعسكره، بل يبحث عن عقد جديد مع الناس، قائم على المكاشفة لا على المكابرة، وعلى تفادي المواجهة لا على العفو. فالأقسى من الاعتقال هو تصوير الإفراج على أنه منة، كأنها مسألة بين أعداء وليست خلافا بين أهل وأبناء أرض.

التباهي بالجماهير الغفيرة، كما في صنعاء ودمشق، ليس حلا، قصيرا أو بعيد المدى. فليس من شأن الدولة أن تضع أبناءها في مواجهة بعضهم البعض، ولا أن تمنحهم شهادات التميز وفقا للولاء للنظام بدل الوطن. الجماهير لعبة خطرة ورمال متحركة من مكان إلى مكان. والقضية الحقيقية ليست في أعدادها، بل هي في الشراكة التي تقوم بين الناس وأهل الحكم. ولا تستقيم أمور الحكم إلا عندما يشعر الإنسان بأن الشرطي لحمايته وليس لضربه. وعندما لا يعود الإصلاح مطلبا مميتا بل نهجا يوميا. وعندما لا تعود الناس تنزل إلى الساحات العامة إلا للنزهة في العيد الوطني. وعندما تحل الطمأنينة محل الخوف. عند الفريقين.