قاض في الجنة وقاضيان في النار

TT

نفهم أن يشيع الفساد بين الولاة، لكن من الصعب تقبل ذلك بين القضاة وهم المسؤولون عن تطبيق الشريعة، والذين ينطقون بالحكم باسم الله ويعملون من أجل إحقاق العدل. بيد أن ضلوعهم في الرشوة والفساد عموما أصبح ديدن الكثيرين منهم، حتى قالت العرب «قاض في الجنة وقاضيان في النار». وكان أن اعتذر أبو حنيفة عن عدم قبول هذه الوظيفة حفظا لروحه وتقواه عندما حاول المنصور فرضها عليه، فقال للخليفة «لك حاشية يحتاجون لمن يكرمهم، وأنا لا أصلح لذلك». فقال له «كذبت فأنت تصلح»، فرد عليه «حكمت علي بنفسك.. كيف يحل لك أن تولي قاضيا وهو كذاب؟».

انعكس الكثير من ذلك في بطون الأدب العربي.. ومن أظرف ما جاء من وصف بديع الزمان الهمذاني للقاضي أبي بكر:

«ولي القضاء من لا يملك من آلاته غير السبال (الشوارب)، ولا يعرف من أدواته غير الاعتزال، ولا يتوجه في أحكامه إلا إلى الاستحلال، ولا يرى التفرقة إلا في العيال، ولا يحسن من الفقه غير جمع المال، ولا يتقن من الفرائض إلا قلة الاحتفال وكثرة الافتعال.. فقبحه الله تعالى من حاكم، لا شاهد أعدل عنده من السلة والجام، ولا مزكي أصدق لديه من الصفر (الدنانير)، ترقص على الظفر، ولا وثيقة أحب إليه من غمزات الخصوم على الكيس المختوم.. ولا حكومة أبغض إليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المفلس..» إلخ..

والواقع أن نظام القضاء كان يشجع على الفساد، فالقاضي لم يكن يتقاضى راتبا من الدولة، وإنما يعيش على ما يدفعه له الخصوم من أجرة ليقضي بينهم، ومن الطبيعي أن يحكم لمن يدفع أكثر، ولهذا كانت مناصب القضاة تباع وتشترى. روى ابن اياس في «بدائع الزهور» طائفة من النوادر بحق القضاة المتفسخين، فاستشهد بالقول السائر «إن البرطيل (الحجر المستطيل) يلقم المشتكي عن الكلام بالحق». ومن ذلك أن قال مثلا إن القاضي القلقشندي اشترى منصبه بثلاثة آلاف دينار، ثم استطاع القاضي ابن النقيب أن يأخذ مكانه برفع هذا الثمن إلى خمسة آلاف دينار. ولتقدير مكانة هذا القاضي، فقد قال فيه أحد شعراء عصره:

قاض إذا انفصل الخصمان ردهما

إلى جدال بحكم غير منفصل

يبدي الزهادة في الدنيا وزخرفها

جهرا.. ويقبل سرا بعرة الجمل..

وقال شاعر آخر بحق أحد القضاة:

يا أيها الناس قفوا واسمعوا

صفات قاضينا التي تطرب

يزني، ينتشي، يرتشي

ينم، يقضي بالهوى، يكذب..

وقد ترددت حكايات وطرائف كثيرة شاعت بين العامة والخاصة بشأن القضاء والقضاة، مما سأتعرض إليه لاحقا.