ما بين المنامة ودمشق من اتصال

TT

لا أعترف كثيرا بنظرية المؤامرة التي تستهوي معظم العقل العربي، من كثرة ما علقنا مشكلاتنا على مشجب الآخرين، والتشكيك يزداد، خاصة في أوقات الأزمات، إلا أني أعرف أن الحقيقة أيضا هي أول ما يضيع في مثل الارتجاف الهائل الذي ينتاب العرب ممن أصابته الرجفة أو ما زال ينتظر.

في الأسبوع الماضي كنت طرفا في نقاش على تلفزيون «الحرة»، وفوجئت بسؤال عن علاقة ما يحدث في سوريا بما يحدث في البحرين، وكان السؤال هو: هل هناك خيط سياسي تعمل عليه القوى الإقليمية من أجل تخفيض الاحتقان في البحرين، شرط أن يخفض هذا الاحتقان في سوريا؟ استبعدت لأول وهلة العلاقة بين المكانين؛ فكل له ظروفه الموضوعية ومدخلاته السياسية ووضعه التاريخي. كنت ساذجا في هذا الاستبعاد، على الرغم من الفارق الكبير في الدوافع والأهداف، فيما يحدث هنا وهناك.

تبين سريعا سذاجة الفهم عندما تحدث السيد حسن نصر الله باسم حزب الله في بيروت، فقال مادحا النظام السوري إنه الممانع الوحيد في العالم العربي ضد الاستسلام، وبذلك هو مستهدف من القوى (الصهيونية والغربية)، ثم أردف بكلام ناقد للسلطة البحرينية على الأحكام التي أصدرتها ضد المتهمين بالإخلال بأمن الدولة. هذا الربط فيه الكثير من خداع العقل، كما أن فيه ما يشير إلى علاقة ما بين القوى الإقليمية وما يحدث في منطقتنا. في مكان ما علاقة واضحة، وفي أخرى ملتبسة.

القوى الإقليمية التي أعنيها هي إيران من جهة، والدول الغربية من جهة أخرى. فحزب الله اعترف بحقيقة علاقته العضوية بإيران، تلك حقيقة لا يحتاج إلى تأكيدها أحد، وهو بهذا الوضع يكون الناطق الرسمي لما تريد طهران أن تراه يتحقق أو لا يتحقق في المنطقة. في الحالتين البحرينية والسورية، نجد أن إيران تريد أن تحقق اضطرابا كبيرا في البحرين وفي الجوار، قد يصل الأمر إلى أن تسقط المنامة لقمة سائغة في يدها، كما تريد، على العكس، أن يتحقق استقرار في سوريا دون أي اضطراب يذكر؛ بحيث يبقى على الوضع القائم. وحيث إن دمشق حليفها في المنطقة ورمز اختراقها التاريخي، لذلك بدأت الصور تتداخل إلى درجة أن السيد حسن نصر الله، وهو لا يمثل فقط قيادة سياسية تصيب وتخطئ، ولكن أيضا قيادة دينية، المفترض أن تكون بعيدة عن الأخطاء قدر ما أمكن، يغامر باكتشاف المبصرين تناقض خطابه، عندما يرحب بعمل في مكان ما، ويشجب نفس العمل في مكان آخر!

في هذا الفضاء العربي المتشابك نرى أولا أن السيد نصر الله، قبل أسابيع قليلة، يزجي التحية والتبريك لما يحدث في كل من تونس ومصر والبحرين، وخاصة في الاثنين الأخيرين، على أنه انتفاضة شعوب تريد الحرية وأيضا تريد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والنفوذ الغربي، والكلمات والخطب مدونة.

من جانب آخر، بمجرد اشتداد المطالب الشعبية في المدن والقرى السورية ووقوع الضحايا التي لم يقع مثلها في العدد في أي مكان آخر، تبين للسيد نصر الله أن تلك مؤامرة غربية وهجمة وجب مقاومتها بكل السبل وكيل كل القبائح لها. التناقض الفظ كيل الاتهامات للسلطة في البحرين على أساس أن المطالب جد محقة، بما فيها إنشاء حكومة على غرار حكومة ولاية الفقيه في المنامة من جهة، ورفض إصلاح ديمقراطي تطالب به الجماهير السورية بعد طول كتم للأنفاس من جهة أخرى.

ما عرضته في السابق يبين أن ما نراه من انتفاضات عربية، وإن بدت في الظاهر مطالب شعبية محقة، سرعان ما استفادت أو قررت أن تستفيد منها قوى إقليمية بشكل مباشر، في الذهن طهران عن طريق ذراعها في المنطقة؛ ترحيب في مكان وشجب في مكان آخر.

المطالب في البحرين سياسية، وكثير منها معترف به من قبل السلطة ذاتها على أساس التفكير في تطوير التجربة البرلمانية وتحسين مخرجاتها، وما إن بدأت المطالبات تيمنا بما حدث في أماكن أخرى من العالم العربي، حتى طرحت فكرة الحوار. التدخل الخارجي بوضوح أفسد كل شيء، وقد أصبح اليوم معترفا بهذا التدخل حتى من بين المناصرين للمطالب، بل ومكانا للنقد، ورقة الدكتور علي فخرو التي قدمت في لقاء منتدى التنمية الخليجي في دبي يوم 9 يونيو (حزيران) الحالي ونُشرت على الشبكة الإلكترونية، هي من بين عدد من الوثائق التي تدين الداخل واختطاف المطالب الشعبية في البحرين؛ فقد قالت الورقة بالحرف: «...ثم جاءت الطامة الكبرى عندما طرح بعضهم شعار المطالبة باستبدال الحكم الحالي بنظام جمهوري..»، فليلحظ القارئ استخدام الطامة الكبرى، بمعنى أن هناك «طامات أخرى ذكرها الكاتب، بمعنى أن تلك المطالب لم تعد محلية يمكن الوصول إلى حلول لها بين الأطراف الوطنية.

تدخل القوى الخارجية، وخاصة الطرف الذي سمع نصيحة الضاحية الجنوبية برفع سقف المطالب والسعي للاصطدام بالسلطة المحلية على حساب مطالب الناس، يدعو المراقب إلى القول إن ما حدث هو حق أراد له أن ينجز باطلا. هذا التصرف لم يكن يريد خيرا للمواطنين، بل أراد أن يحقق ربحا معنويا وماديا رآه ممكنا في بقعة صغيرة، ولكن مهمة من الصف الخليجي، فأصبح، والأمر ذاك، ورقة ضغط؛ في ظاهرها خير وفي باطنها شر كثير.

الافتراض الخيالي المطروح هو أن تخفيف الضغط في البحرين شرط لتخفيف الضغط في سوريا، وهو شرط افتراضي، أولا يؤدي إلى حرف المطالب السياسية المحقة في البحرين لتحقق مطامح إقليمية، ويجعل تلك المطالب مستحيلا الوصول بها إلى ميناء آمن، وبالتالي يجعل من الوصول إلى وفاق عملية مستحيلة، ما دامت الشروط تتصاعد نتيجة لطموحات أجندة خارجية ومعارك يراد لها أن تخاض في أماكن أخرى.

ومن جهة أخرى، فإن الافتراض المكمل أن ما يحدث في سوريا هو بفعل فاعل (نظرية المؤامرة)، حيث يذهب هذا التصور إلى أن ما يحدث في سوريا ممول من قوى محلية ومدعوم من قوى خارجية، ربما دولية، تتضرر بالضغط على مصالحها في البحرين! هذه القاعدة في الربط هي الخطأ الأكبر والمميت في التحليل. ما يحدث في سوريا هو رغبة شعب في الحصول على الحريات. وبالمقارنة، فإن الحريات في البحرين سقفها أرفع كثيرا، إذا أخذنا الواقع، مما في سوريا، بل وحتى في لبنان، حيث يتمتع حزب الله بالغلبة بسبب سلاحه لا بجهده السياسي.

لنبدأ بالعد؛ في البحرين هناك، حتى قبل الأحداث، تعددية سياسية، هناك معارضة، هنا رأي ورأي آخر، وهناك انتخابات حرة أمام أعين العالم شارك فيها أكثر من 80 في المائة من الناخبين. في سوريا حزب وحيد حاكم وانتخابات محدودة، إن لم توصف بتوصيف آخر، كما أن انتخابات لبنان التي فاز في جزء منها حزب الله، لم يصوت إلا 24 في المائة من الناخبين. لمعرفة مسبقة بنتائجها. لا توجد إذن مقارنة معقولة بين الحدثين، يوجد فقط استهداف سياسي ومحاولة تطمين النفس.

القوى العربية الحية والقوى العالمية المستنيرة رحبت بما يحدث في سوريا برجاء أن ينفتح هذا البلد المهم على الحريات والتعددية، وأيضا تعاطفت مع مطالب المحتجين، وقامت دول غربية باتخاذ خطوات سياسية واقتصادية من أجل إقناع سلطة دمشق بالانفتاح الأوسع على شعبها. ليس أكثر من ذلك، على الرغم من أصوات دعائية تدعي بأن هناك تدخلات من هذا البلد العربي أو من شخصيات معينة في تلك البلدان، كل ذلك لا يقنع العاقل بل ويثير الحصيف.

إذن الربط بين ما يحدث في المنامة وما يحدث في دمشق هو ربط في أذهان من يطلق مثل تلك التصورات، ولا يستطيع أحد أن يساوم، لا هنا ولا هناك، لأنه لا توجد قضية للمساومة.

آخر الكلام

رغم أهمية الحدث فإن الإعلام العربي لم يتناول الخبر على نطاق واسع، وهو إشراك الكاتب العربي المميز، أمين معلوف، المهموم بقضايا شعبه العربي في الأكاديمية الفرنسية، لكونه فرنسيا من أصل عربي، لهذه الخطوة دلالتها الحضارية كما أنها اعتراف بالعقول قبل لون البشرة أو كلمات اللسان.