التوقع فقط من فوق

TT

في يناير (كانون الثاني) 1917 أعلن فلاديمير إيليتش لينين، في محاضرة في برن، أن إمكانات وقوع ثورة في روسيا شبه معدومة: ليس في أيامي، قال الرفيق الأول! بعد شهر واحد كانت موسكو تشتعل. الثورات، مثل الزلازل، غير خاضعة لقانون التوقعات، مثل الأعاصير والرعود والأمطار؛ لأنها تأتي من تحت، لا من فوق، من الباطن المكتوم، المكبوت. حتى إذا حدث اهتزاز فيما يسميه الجيولوجيون «الفالق»، انفلقت الأشياء بلا حدود.

«الثورة العربية» لم تختلف، في ظهورها، عن الثورة البلشفية قبل قرن، أو الثورة عليها قبل عقدين. في الأولى، اجتاح النظام الماركسي أوروبا وآسيا، وفي الثانية سقط فيهما، بما في ذلك نظام تشاوشسكو في رومانيا؛ حيث كان الناس يخافون من تنصت زهر الحدائق ومقاعدها. في الثورة البلشفية علت على الفور جدران رمزية وفعلية، وفي الثورة عليها، بدأ الانهيار الكبير بتفتيت جدار برلين، الذي رفعه خروشوف بين الشرق والغرب. «الثورة العربية» بدأت في أقل الأمكنة توقعا؛ فالمعارضة التونسية كانت خافتة الصوت، قليلة الحضور، والنظام البوليسي كان قد حقق، تقريبا، ما حققه بينوشيه في تشيلي، أي: الرخاء الاقتصادي النسبي والقمع المطلق. ومع ذلك ارتجت الأرض تحت بن علي حتى وقف يتوسل إلى التونسيين بأنه لن يطلب ولاية أخرى. بلا فائدة. ووقف حسني مبارك بعده يتوسل استكمال ولايته حتى سبتمبر (أيلول). وعبر الوباء الحدود كلها.

وضع نسيم طالب مؤلفا مثيرا حول هشاشة الاستفراد، بعنوان «البجعة السوداء»، يعدد فيه احتمالات التفاجؤ.. فالعالم كان مقتنعا أن البجع لا يكون إلا أبيض حتى ضرب المثل بنصاعة لونه.. لكن ظهور بجع أسود في أستراليا ألغى الانطباع تماما. وطالما سخر الناس في حرب 1967 من قول جمال عبد الناصر «انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب»، لكن الواقع أنه لم يكن أول قائد عسكري في ذلك. فقد بنى الفرنسيون خط ماجينو الشهير بعد الحرب الأولى لكي يصدوا أي هجوم ألماني، لكنهم لم يتوقعوا أن يستدير هتلر على تحصيناتهم. وضع برتراند راسل هذه الظاهرة كلها في حكاية من حكاية الجدات: يعتاد الديك مطمئنا إلى أن صاحبه يؤمِّن له الطعام كل يوم.. ما لا يتوقعه هو اليوم الذي يقرر فيه صاحبه أن يأكله.

فعلت ذلك الشعوب العربية التي اعتدنا على صورة واحدة لها: إما نائمة على وسادة، وإما متكئة على مسند. شعوب لم تعد تفرق بين الموت والحياة؛ لأنهما سيان. حرياتها قاتلة وقوتها ضئيلة وفرحها الوحيد المسموح هو عندما تنزل إلى الشارع لكي تغني «بالروح.. بالدم». فقد نسيت أناشيدها الوطنية و«بلادي بلادي بلادي» وصار كل وجودها وتاريخها رهنا لرجل واحد.