الملكية الدستورية: نعم.. ولكن

TT

واقع الانتفاضات الشبابية أو الحركات الاحتجاجية التي اجتاحت مناطق عديدة من العالم العربي، مع بداية السنة الحالية، دفعت الكثير من المحللين وكتاب الرأي في الصحف العربية الكبرى إلى تسجيل الملاحظة التالية: لم ينل العمق، في تلك الحركات، سوى الأنظمة الجمهورية، أما الملكيات فهي بين حال اقتدرت فيها على احتواء الحركة الاحتجاجية في بلادها وآخر ظلت معه في منأى عن الاحتجاج. ومن جهتي فإنني قد عبرت عن هذا الواقع فكتبت - في هذه الصفحة - ما يفيد أن ريح الثورة تجثث، الواحد تلو الآخر، نظم الحكم التي كان الوصول فيها إلى السلطة العليا على ظهور الدبابات مع احتلال مباني الإذاعة والتلفزيون وإصدار «البلاغ رقم واحد» وإعلان الإطاحة بالنظام القائم. الحق أن الفكرة ذاتها تم التعبير عنها بكيفيتين مختلفتين ربما كان آخرها ما قرأناه في «الشرق الأوسط» (29 يونيو/ حزيران 2011) في مقال الباحث المقتدر الدكتور عبد المنعم سعيد، وهو المقال الذي نجعل من محاورته موضوعا لحديثنا اليوم. يقول الأستاذ طيب الذكر: «أصابت الجمهوريات العربية (شوطة) الثورة كما يقال في مصر عن الوباء الذي يحل بالإنسان أو الحيوان (...) الملكيات وحدها لا تزال صامدة أمام الفوضى وبعيدا عن (الشوطة)». والحق كذلك أن ما ذكره أستاذ العلوم السياسية هو تقرير لواقع ووصف لحال ماثل للعيان. أما الشأن في الأسباب والدلالات البعيدة فآخر.

غير أن مقال الصحافي القدير يتجاوز الوصف (أو «التوصيف» - كما يفضل الإخوة في المشرق العربي قوله) إلى تقديم اقتراح عملي لمجاوزة الأزمة التي لا سبيل إلى إنكار حضورها في الجمهوريات العربية ضحايا «الشوطة». ولو أننا نزعنا من المقال الغلالة البلاغية التي تحجب القول الصريح لقلنا في لغة «البيان الكامل» (كما يشرحها الإمام الشافعي في «الرسالة») ومن كلام الأستاذ سعيد نستمد «دولة الملوك قامت على أن يكون العرش مصدرا للوحدة». في هذا المقام يغدو استدعاء الرمز ضروريا فهو يسعف بما لا يسعف به القول المباشر. نقول إذن مع صاحب المقال المشار إليه: «النظام الملكي لم يوجد من فراغ، ولم يكن ليعيش كل هذا الزمن ويظل في أكثر بلدان العالم تقدما لولا أنه عرف كيف يتلاءم مع العصر».

عن طريق الاستعارة، وكيفية بارعة مكنه منها وجوده على رأس أقدم وأكبر مؤسسة صحافية عربية مدة سنوات غير قليلة، يتوسل أستاذ العلوم السياسية في بسط فكرته بمثالين. المثال الأول هو حال إسبانيا غداة موت فرانكو، وبالتالي انقضاء عهد ديكتاتورية الجيش التي استمرت أزيد من أربعة عقود «في إسبانيا لم يكن هناك بد لاستمرارية الدولة موحدة ما بين الباسك والكتالون وغيرهما إلا عندما يقعون تحت تاج واحد، وبعد عقود من حكم فرانكو تم استدعاء الملك خوان كارلوس لكي يحكم». والمثال الثاني يستمده الأستاذ عبد المنعم سعيد من بلجيكا وذلك في مماثلة بين المغرب، من جهة، وكل من بلجيكا وهولندا وبريطانيا من جهة أخرى (مع الاختلاف في الحجم والتاريخ والتركيب الاجتماعي): «المغرب، على وحدته، متعدد القبائل والأعراق والمذاهب». والمغرب اختار طريق الملكية الدستورية، ومن ثم فإن الباحث يطمئن إلى صحة المقارنة بين المغرب وبلجيكا غير أن أخطاء معرفية تكمن خلف الصحة المفترض وجودها ومن ثم الاطمئنان إلى النتائج المترتبة وهذا مدعاة للطعن.

ينبني كلام الباحث على مقدمتين منطقيتين، وهذا ما نستنتجه. مقتضى المقدمة الأولى هو، والكلام للباحث: «أوروبا، القارة الأكثر تقدما في العالم، هي ذاتها التي احتفظت بأكبر عدد من الملكيات». والمقدمة الثانية تقضي بالقول: «حلت أوروبا مشكلتها عن طريق الملكية الدستورية، حيث الملك يملك ولا يحكم».

يبدو الأمر، فيما أحسب، أكثر وضوحا وصراحة في القول متى نظمنا حديث الأستاذ في مقالته (الملكية الدستورية) على النحو الذي فعلنا. وإذا كان الأمر كذلك فإن سؤالا يفرض نفسه: هل في الإمكان، في الجمهوريات العربية التي حلت بها «شوطة» الثورة، أن يكون البديل للحكم العسكري هو الملكية التي يسود فيها الملك ولا يحكم، فهو الرمز، وهي «دولة الملوك» - كما يقول الأستاذ عبد المنعم - لا دولة الجيش؟ هل المماثلة بين إسبانيا، من جهة أولى، ودول الجمهوريات العربية، من جهة ثانية، ممكنة ما دام أن عاملين اثنين يتحققان: وجود ملكية، كنظام سياسي سابق على وجود دولة الجيش في تلك الدول واستمرار حكم الجيش عقودا من الزمان في مشابهة لما كان عليه الشأن في إسبانيا؟ قد يلزم، على كل، التمييز (في الحديث عن الجمهوريات العربية التي أصبحت جمهوريات بعد انقلابات عسكرية وبين أخرى لم تكن ملكيات في المعنى الكامل (باي تونس مثلا).

أمر آخر يستدعيه حديث الصحافي القدير وأستاذ العلوم السياسية المدقق، والقصد المقارنة الواردة بين المغرب من جهة وبلجيكا من جهة أخرى. ذلك أن في الحديث تفريطا واضحا في المعطيات التاريخية وغضا للطرف عن الحقائق البادية للعيان.

فأولا ليس المغرب بلدا «متعدد القبائل والأعراق والمذاهب»، ولعل الأستاذ عبد المنعم سعيد خير من يعلم أن في المغرب، بالأحرى، وحدة في المذهب. وحدة في المذهب العقائدي، فالمغاربة سنة مائة في المائة، فلا وجود البتة للشيعة ولا وجود لأقلية خارجية على غرار ما الشأن عليه في كل من الجزائر وتونس وليبيا. والمغاربة مالكية من حيث الانتساب إلى المذهب الفقهي. وأما «القبائل» فالتشكيلة الاجتماعية في الغرب تقوم على أسس أخرى ليس فيه للقبيلة إلا حضور هامشي وبالتالي فإن من العبث التفكير في مماثلة مع ما هو الشأن عليه في اليمن والعراق أو سوريا، فليس في المغرب نظام للعشيرة ولا لشيخ القبيلة، والولاءات تخضع لمنطق مغاير وربما كان الأقرب إلى الصواب أن تكون المقارنة مع مصر وحدها من بين كل الدول العربية. وأما «الأعراق» ففي المغرب مثنى لا جمع (أمازيغ وعرب) اللهم إلا أن يكون الأستاذ سعيد على المذهب النحوي الذي يقرر أن أقل الجمع اثنان فيكون المثنى جمعا. وعلى كل فهنالك تداخل شديد بين العنصرين الأمازيغي والعربي، إلا أن يأخذ المرء بنظرية الأعراق على النحو الذي ظهرت به في القرن التاسع عشر. لا مماثلة ممكنة إذن بين المغرب وبلجيكا من جهات التشكيلات الاجتماعية والمسار التاريخي والبنية الثقافية.

نعم، إن الملك، في الملكيات الدستورية، «يبقى الاحتياطي الاستراتيجي للأمة كلها»، كما يقول صاحب المقال، والملكية الدستورية تشكل نقلة كيفية في تاريخ البناء الديمقراطي في التاريخ، وهي، لا شك في ذلك، تملك المؤهلات السياسية للسير على الدرب الديمقراطي بخطى ثابتة. خلف الغلالة البلاغية التي يلبسها الأستاذ سعيد لفكرته تظل الفكرة جريئة، بل إنها إسهام إيجابي في دفع الحيرة وبالتالي فهي جديرة حقا بأن تطرح على بساط الدرس والمناقشة.

نعم، أخي الكريم، إن في مثال إسبانيا ما بعد فرانكو، وبعد الحكم العسكري، عقودا متصلة ما يغري بالمقارنة، وفي مثال إسبانيا التي ذكرت ما يدفع جهة الحلم ويفتح أبواب الأمل عريضة على مصراعيها.

أليس من مكر التاريخ، كما يقول هيغل، أن يعتصم الشباب الإسباني في ميدان بويرطا ديلصول في وسط العاصمة مدريد وأن يرفعوا، عاليا، لافتة نقرأ فيها: «لسنا أقل أهمية من شباب ميدان التحرير».