أين أميركا؟

TT

السؤال الذي يطرحه العامة من العرب، كما تطرحه النخبة: أين أميركا من هذا الحراك العربي الكبير.. هل هي مؤيدة وداعمة فقط أم محركة؟ عادة ما تنتهي المناقشة بين عدد من الأشخاص يبحثون عن تفسير لما حدث ويحدث، بدءا من تونس مرورا بمصر واليمن وحتى سوريا، من دون استثناء لأي حراك سياسي مشاهد، سلمي أو يأخذ طريق العنف، بالبحث عن دور أميركا.

دون تضخيم أو تقليل مخل للدور الأميركي، لا شك أن الولايات المتحدة على الأقل تستفيد من هذا الحراك، وتوظفه بشكل فعال كي تدفعه باتجاه ما تراه صحيحا ومطابقا لمصالحها، وهو أن الحرية هدف كي يتصرف الناس بشكل واسع في شؤونهم بعيدا عن الشمولية.. وتوفر فرصا أفضل لتقليل أو ربما لاضمحلال الإرهاب الذي تعاني منه، ويشكل هاجسا لها ولحلفائها، ويدفعها إلى الحروب المكلفة، وبالتالي تتوجه إلى أكثر الأشكال دعما، كل حسب الواقع على الأرض، من أجل تعضيد حركة التغيير، حيث إنها في نظر تلك السياسة أقل كلفة على المدى المتوسط والطويل، من الخيارات الأخرى.

يبقى السؤال الكبير: هل تحقق حركة التغيير العربية تلك الافتراضات التي تخدم المصالح النهائية للولايات المتحدة؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عنه في الوقت الراهن. لكن ما نراه واضحا هو أن سياسة الولايات المتحدة، في دعم ذلك التغيير من جهة، والتشجيع على تغيير الحكومات الشمولية من جهة أخرى، واقع مشاهد.

التنظير لهذا الاتجاه ظهر منذ مدة في عدد من الأدبيات، لعلني أشير إلى كتاب لي سميث المعنون «الحصان الأقوى.. السلطة والسياسة وصدام الحضارات في الشرق الأوسط» الذي صدر العام الماضي. في صلب ذلك الكتاب نظرية تقول إن العالم الغربي المنتصر في الحرب العالمية الأولى نظر إلى الشرق الأوسط ومستقبله، فظهرت سياستان، الأولى الفرنسية، والقائلة إن الشرق الأوسط عبارة عن تجمعات سكانية تشكل مجموعات من الأقليات، إما مذهبية أو دينية أو عرقية، وعلينا أن نتعامل معها بتلك الصفة، وهذا ما حدث للسياسة الفرنسية.. والثانية السياسة البريطانية، التي رأت أن 70 في المائة من السكان هم من السنة، وعليه وجب التعامل مع القيادات السنية، وهي السياسة الأنجح في نظرهم. يذهب الكاتب إلى القول إن الولايات المتحدة اتبعت السياسة البريطانية.. حتى 11 سبتمبر (أيلول) 2001، أي حتى «غزوة مانهاتن»!.. بعدها قررت أن تتعامل مع الأقليات!

الشواهد على الأرض بدت تؤكد ذلك التوجه: انفصال السودان، ما حدث في العراق، الحديث اليوم في الأوساط الأميركية حول موقف المسيحيين أو الإسماعيلية والعلويين في سوريا. كثير من الشواهد التي تتيح للمراقب تكوين تصور مفادها أن حديث سميث في كتابه المشار إليه آنفا ليس حديثا أكاديميا خالصا، بل له علاقة بما حدث ويحدث على الأرض.

إذا أخذنا ذلك في الاعتبار فإن الأقليات هنا ليست مفهوما عرقيا أو فئويا فحسب، لكنها تتعدى ذلك إلى الجماعات السياسية. الانفتاح الأميركي على الإسلاميين، كحركات سياسية واسعة، لم يعد سرا، بل إن التخويف من الإسلاميين الذي كانت تقول به بعض الأنظمة كمصر مثلا، لم يعد قائما، وبمساعدة مباشرة أو غير مباشرة من الأتراك تم ذلك الانفتاح على القوى الإسلامية، كما تم بالتوازي الانفتاح على أطياف المعارضات المختلفة في العالم العربي. هناك دفع حثيث للقوى الإسلامية السياسية للانخراط في مسيرة التغيير الجديدة، وتشجيع للأقليات الأخرى السياسية والعرقية على المطالبة بحقوقها.

عندما ننظر إلى مشهد السيدة هيلاري كلينتون في ميدان التحرير، وقبلها السيد ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، ومن ثم طيب أردوغان في القاهرة مع مرشد «الإخوان»، ثم سلسلة من الزوار الغربيين إلى ساحة ميدان التحرير، نعرف على وجه اليقين أن هناك رغبة في دعم التغيير الحاصل (على أمل الوصول به إلى بر الأمان وهو بالنسبة لتلك القوى مرفأ الديمقراطية على أقل تقدير) تتماثل مع «الأتركة» و«الأردوغانية» كحد مقبول.

ينسجم عدد من المؤسسات الأميركية غير الرسمية مع هذا التوجه من خلال تضخيم أصوات التغيير الحادث في العالم العربي، هذا التضخيم يأتي من خلال المساندة الإعلامية والمالية، وأيضا من خلال التدريب على أشكال العصيان المدني، تحت شعار حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات. من جانب آخر، فإن الولايات المتحدة لا تراهن على دور الجيوش العربية، وهي المؤسسات المنظمة والمتماسكة الوحيدة.. تتحدث مصادر أميركية عن علاقة وثيقة مع الجيش المصري والتونسي واليمني وربما غيرها من الجيوش، كأفراد أو مجموعات، لحثها على لعب دور الضامن للتوجه الانفتاحي على المكونات المختلفة في المجتمع وعدم مساندة الأنظمة القمعية، وهي مراهنة ليست جديدة إذا عرفنا أن السفير الأميركي في القاهرة عام 1952 هو الذي توسط بين الضباط الأحرار، كما سموا أنفسهم، والملك فاروق لإقناعه بالرحيل، والوثائق اليوم كما كتبها بعض أعضاء التنظيم تؤكد ذلك، من بينها مذكرات خالد محيي الدين، عضو مجلس الثورة وقتها.

السيد باراك أوباما ينفذ سياسة المحافظين الجدد بقفاز من المخمل. المؤسف أن تلك السياسة قابلها سيل من الاستهزاء في السابق من كثير من المعلقين العرب، حتى أبعدت عن الدراسة والتمحيص الجدي، وهي طريقة عربية ثابتة لكنس القضايا المركزية تحت السجادة، مع الأسف، في مناقشة الأمور الجادة. تلك السياسة التي رسمها المحافظون الجدد تنفذ على الأرض اليوم، بصرف النظر عن موقفنا منها. تقول تلك السياسة إن أم المشكلات في الشرق الأوسط هي الحكومات المستبدة وسياساتها القمعية «تخلص من تلك الحكومات تتخلص من كثير من العناصر المهيئة للإرهاب» هكذا بنيت سياستهم. قال بعضنا: لا لا، الإرهاب مصدره الوضع غير الإنساني في فلسطين، لم يسمع أحد ما قيل حتى وقعت الواقعة! من أجل تجنب ما حدث علينا معالجة الاختلالات الداخلية بشجاعة، كما فعل الملك محمد السادس في المغرب، وكما يتوجه إلى الفعل الملك عبد الله الثاني في الأردن، بصرف النظر عن شكل الحكم ما إذا كان جمهوريا أو ملكيا، هناك اختلالات هيكلية تهيئ لبؤر عدم الرضا الشعبي، وتزيد من قابلية الصراع الداخلي، وذلك ليس سرا.

التباطؤ في معالجة الاختلالات سوف يشكل قريبا مدخلا للضغط الواسع من الخارج، ورفع سقف المطالب في الداخل. من يعتقد أن أميركا يمكن أن تتدخل في الشؤون الداخلية لنصرة حُكم ما فهو واهم، إن حدث التدخل الناعم أو الخشن فسيكون في الاتجاه الآخر. علينا القول إن الولايات المتحدة يمكن أن تدخل في تسويات مع إيران، فهي ليست عدوا دائما، ومن دون تلك التسوية لن تحقق إدارة باراك أوباما ما وعدت به بسحب قواتها من العراق. وعلى الأرض اليوم الولايات المتحدة وإيران تديران الملفات المختلف عليها، والعراق هو المكان الذي يحدث فيه ذلك، وقد يحدث في أماكن أخرى من المنطقة.

ترى هل أجبت عن السؤال الذي طرحته في البداية: أين أميركا؟

إنها قريبة جدا جدا!

آخر الكلام:

شاهدت معلقا سوريا تداولته وسائل الإعلام الحديثة، يشتم بكلمات بذيئة ودعاء سلبي بالغ السوء، على كل من قناتي «الجزيرة» و«العربية»، وعلى من يعمل فيهما، وجميع أشكال الإعلام والإعلاميين، شتيمة بالغة السوء والتخلف، قلت في نفسي إنه يشتم المُبلغ عن الحريق، وينسى مشعله!